نحت الذكريات

لعبة الاستعادة لا تعني شيئا متصلا بوقائع منتهية، يجتهد الذهن في انتشالها من بيضات زاحفة على خلايا الذهن، بقدر ما تتصل بطاقة "التخيّل" الذي لا وجود لذكريات دونه.
الأربعاء 2018/11/07
التخيل جسر ووعاء (لوحة: سهيل بدر)

غالبا ما نكتب ذكرياتنا بإحساس الحبور، ونزوع لاستعادة لحظات وفضاءات وشخوص وأحاسيس هاربة، نكتبها كي لا تضيع في ردهات النسيان، حتى حين تلتبس بمشاعر أسية، فاستعادتها أدبيا تحولها لمجال رومانسي، التخيل يركبها في مساقات “الهنا” و”الآن”، لتولد من جديد مرفقة بدهشة الاستعادة، ذلك ما تؤكده روايات عديدة حتى لا نتحدث عن سير ومذكرات ورحلات يصقل فيها التخيل ما علق من صدأ في الذكرى المضيئة، هكذا كتب غارسيا ماركيز “ذكريات غانياتي الحزينات”، بهدف تخليق الظلال وإعادتها إلى الشيء المحسوس، أمر لا علاقة له بسيرته: “نحياها لنرويها” ولا ب: “تقرير إلى غريكو” لكزانتزاكيس، ولا ب “خارج المكان” لإدوارد سعيد، ولا ب “المذكرات المضادة” لأندري مالرو.

في الصفحة الأولى من رواية محمد برادة: “مثل صيف لن يتكرر” يورد نصا لفيرناندو  بيسوا يقول: “الذكرى خيانة تجاه الطبيعة لأن الطبيعة بالأمس ليست طبيعة، ما كان ليس شيئا وأن نتذكر معناه ألا نرى”، أعدت النظر كثيرا في دلالة هذا النص الوارد في مستهل متن روائي مبني على لعبة التذكر، هل معناه أن ما سيقبل القارئ على قراءته ليس حقيقيا؟ أم أن وجوده مرتبط فقط بما تقوله المفردات الحاملة له؟ أم أن الذكريات في النهاية هي مجرد وهم أو خدعة لكتابة تصطنع لنفسها حيوات محتملة في الماضي؟

والحق أنه يمكن أن تكون كل تلك الافتراضات صادقة في التعبير عن جوهر كلمات “بيسوا” بصدد الذكريات، إنما ما يبدو مؤكدا في النهاية، أن لعبة الاستعادة لا تعني شيئا متصلا بوقائع منتهية، يجتهد الذهن في انتشالها من بيضات زاحفة على خلايا الذهن، بقدر ما تتصل بطاقة “التخيّل” الذي لا وجود لذكريات دونه، ولا تحقق للروايات بغيره؛ التخيل جسر ووعاء، وهو ما يحول الذكرى إلى تحقق لفظي له كنه الرومانيسك، ويمنح الوقائع القديمة المتداعية إلى الذهن تقاسيم وألوانا ومعنى.

فليست الذكريات هي ما وقع بالأمس أو في اليفاعة أو ما قبل تعلم الكلام، هي صورتها الحريفة أو العذبة كما يدركها الروائي وهو مقبل على تحويلها إلى قاعدة في امتداد تخييلي له طعم وعمق وقصد جمالي.

هل الكتابة إذن إلا نفي للعدم الذي صارته حياتنا الماضية؟ محتمل، وربما أيضا هي تجميع للمبدد المتبخّر عبر الهواء ولزوجة السديم المكتف لما انقضى، عبر إعادة نحت الأثر بالكلمات، واختراق هشاشة الذكرى بمنحها صلابة الشيء المحسوس. استحضر هنا حكاية النحات الذي صعقته ملاحظة ناظر إلى تحفته، حين علق: “لم أكن أعتقد أن الصخرة كانت تخبئ هذا التمثال”.

15