نجم الأفلام التسجيلية يسطع من جديد بعدما لفّها النسيان

باتت غالبية الأفلام المصرية المُشاركة في المهرجانات الدولية في الآونة الأخيرة مقتصرة على الأفلام التسجيلية بأبطالها حديثي العهد بالفن والسينما بشكل خاص، وأخذت تسحب البساط من تحت أقدام نجوم كبار، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل عن عوامل الجذب فيها.
القاهرة – وجدت الأفلام التسجيلية اهتماما من قبل الكثير من العاملين في السينما بمصر، وانتقلت من الظل إلى النور، ومن قلة الاكتراث بها إلى تسليط الأضواء عليها، وباتت مثل “الدجاجة التي تبيض ذهبا” لبعض المخرجين والمنتجين، والمجال الذي يفجّر فيه بعض الفنانين طاقاتهم الإبداعية وهم يقفون لأول مرة أمام الكاميرات.
واختارت ما تسمى بـ”لجنة الأوسكار” التي تقيمها نقابة السينمائيين في مصر قبل أيام فيلم “سعاد” للمشاركة في المهرجان الدولي والمنافسة على جائزة أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية لهذا العام، وهو من إخراج آيتن أمين وتأليف محمود عزت.
الأفلام التسجيلية لا تقدّم وجوها تصلح لبطولة الأفلام العادية، ومن يريد المواصلة عليه صقل مواهبه بشكل احترافي
وأسندت البطولة فيه لممثلتين مغمورتين تقفان للمرة الأولى أمام الكاميرا، هما بسنت أحمد وبسملة الغايش، وفازتا مؤخرا بجائزة مناصفة لأفضل ممثلة بمهرجان فالنسيا.
وكان الفيلم ضمن قائمة الأعمال الرسمية التي اختيرت للدورة الثالثة والسبعين من مهرجان كان السينمائي الدولي لعام 2020، لكن تم إلغاء الدورة بسبب فايروس كورونا.
وتدور أحداث الفيلم حول المراهقات، ويحكي قصة أختين “سعاد” و”رباب” وحياتهما اليومية في إحدى مدن الأقاليم بمصر، وعلاقاتهما على مواقع التواصل الاجتماعي بطريقة بسيطة وسهلة وعفوية تجذب المُشاهد.
وتبرز أحداث الأفلام التسجيلية قضايا دقيقة، وتغوص في قاع المجتمع المصري، بما يمنحها جاذبية لدى الجمهور والنقاد والمهرجانات، لأنها تناقض موضوعات حياتية حقيقية، ويضفي طاقم التمثيل الحديث بريقا عليها، إذ يبدو كل فنان أو فنانة كأنه يجسّد حياته الشخصية ولا يقوم بحفظ سيناريو وحوار مُعدّين خصيصا للعمل.
مدرسة فنية جذابة
أحيانا يتسبّب طرح قضايا اجتماعية شائكة في مشاكل لطاقم الفيلم، ولعل أزمة فيلم “ريش” للمخرج عمر الزهيري أثناء عرضه ضمن مهرجان الجونة السينمائي في شهر أكتوبر الماضي تعكس إلى أي مدى يمكن أن تثير الأفلام التسجيلية مشكلات لأصحابها، حيث اتهم طاقم الفيلم بأنهم عروا عشوائيات المجتمع المصري عن عمد من خلال تقديم حياة أسرة فقيرة تقيم في بيئة متواضعة للغاية.
وبعيدا عن الضجة التي أثارها الفيلم في مصر، فقد حاز على جائزة أسبوع النقاد في مهرجان كان السينمائي، ولقي حفاوة كبيرة من قطاع كبير من الجمهور، ما يُسهم في زيادة الإقبال على الأفلام التسجيلية، والتركيز على المواهب الجديدة التي أصبحت مغرية لبعض المخرجين، إذ من السهولة تطويعهم.
ولم تكن بطلة فيلم “ريش” دميانة نصار تقوم بتمثيل قصة من وحي الخيال، بل مثّلت حياتها ودورها في أسرتها الفقيرة، وهو ما يمنح مصداقية للعمل، ويضاعف من إقبال المخرجين على الوجوه التي لم تلتق بالكاميرا من قبل، ولا تملك خبرة التعامل مع طاقم التمثيل، ما يحوّلها إلى عجينة يسهل تطويعها فنيا.
ومع أهمية تطويع المخرج للممثل، لكنه يمكن أن يواجه مشاكل مع البعض، فالكاميرا لها رهبتها والأجواء التي تحيط بها يمكن أن تصبح عائقا ما لم يكن من يقوم – تقوم بالدور مدركا لأبعاده بصورة فنية جيدة، ويحاول مخرجو هذه الأفلام الاستفادة من ميزة البراءة أو الفطرة التي تصاحب الممثلين في ظهورهم الأول أمام الكاميرا.
ويقول الناقد الفني رامي عبدالرازق لـ”العرب” إن “الاعتماد على أشخاص من الواقع يعدّ أحد المدارس الفنية التي أخذت في الانتشار على نطاق واسع في عدد كبير من أفلام أوروبا الشرقية وإيران في السنوات الماضية وتعرف باسم ‘التمثيل التلقائي’، وفي تلك المدرسة يبحث المخرج عن شخصيات حقيقية تشبه الشخصية الدرامية على المستوى الشكلي أو التجارب الحياتية، وتكون المساحة بين الواقع والخيال ضئيلة للغاية، وهو ما يُساعد في وصول الرسالة والتأثير في الجمهور على نحو أكبر”.
ويضيف أن العديد من المخرجين في أوروبا حاليا لا يجيدون التعامل سوى مع الأشخاص الواقعيين، وهو نموذج يقتدي به البعض من المخرجين في مصر من الشباب، على رأسهم عمر الزهيري وآيتن أمين.
ويرجع النجاح في توظيف تلك المدرسة إلى قدرة المخرج على إدارة النموذج وإدخاله في الإطار الدرامي للفيلم، وفي بعض الحالات قد لا ينجح الأشخاص الطبيعيون في لمس مختلف جوانب الشخصية وتبدو الرسالة مشوّشة.
ويوضّح عبدالرازق لـ”العرب” أن ترشيح فيلم “سعاد” لجوائز الأوسكار و”ريش” في كان، يرجع إلى براعة المخرج في اختيار شخصيات تملك تقاربا شكليا مع الشخصية الدرامية وقدرة على التمثيل تجعل التجارب الفنية مميّزة وحقيقيّة، وهو أمر تحقّق على نحو أكبر في فيلم “سعاد”، واستطاعت الفتاتان بسنت وبسملة بتلقائية وعفوية التعبير عن الواقع بزاوية فنية مع منح المخرجة مساحة حرية لهما.
وتحافظ الكثير من النماذج التي يتم اختيارها على الجزء الفطري وتأخذ التمثيل كشغف وهواية وليس مهنة، في الوقت ذاته يسهم هذا النوع من المدارس في اكتشاف المواهب.
ورغم الأهمية التي تحملها الأفلام التسجيلية وعمق الرسائل السياسية والاجتماعية التي بداخلها، إلاّ أنها تجلب للقائمين عليها صداعا، حيث يتّهمون بأن أعمالهم تحمل تشريحا للمجتمع المصري ما يخدم جهات خارجية تريد أن تظل الصورة النمطية عن مصر قاتمة، ويستشهد أصحاب هذه الرؤية بأن معظم الأفلام التسجيلية تُعالج قضايا من قاع المجتمع، فلا يوجد فيلم يتطرّق إلى وجه مزدهر من وجوه الحياة.
ويمكن الردّ على هذه المسألة بسهولة، لأن من طبيعة الفن عموما البحث عن الوجوه المظلمة في الحياة والشخصيات العابسة التي تجذب الجمهور والنقاد، وهي في معظمها ثرية ومليئة بالتفاصيل التي يجهلها الكثيرون وتظهر جوانب غير مألوفة.
بحث عن الإثارة
تبحث المهرجانات عن هذه الثيمة التي تلجأ إلى كل ما هو غير مألوف، ما ضاعف من الإقبال على إنتاجها، خاصة أن هناك تمويلات خارجية توفّر دعما لبعضها، بما يقوّض واحدة من الأزمات التي توجه إنتاجها.
ويتجاوز حاليا التركيز على الأفلام التسيجيلة عملية التمويل، وخرج اللجوء إلى فنانين حديثي العهد بالفن أو وجوه تقف للمرة الأولى أمام الكاميرا من نطاق توفير النفقات، وتحوّل إلى ملمح يميّز أصحابها، وشجّع تبني جهات متعدّدة تمويل هذه الأفلام الكثير من المخرجين الشباب على الإقبال عليها.
قد يكون الاهتمام من قبل شريحة المبدعين الشباب من المخرجين بهذه الأفلام يحمل شيئا من البحث عن الإثارة ولفت الانتباه إليهم، بجانب أنهم يجدون فيها مساحة واسعة للإبداع أو قماشة فنية يمكن تشكيلها بوجوه مختلفة، ما يساعدهم على التعريف بطاقاتهم الفنية من خلال الطرق على موضوعات يراها البعض هامشية.
واستلهمت المخرجة مي زايد قصة فيلمها “عاش يا كابتن” من رحلة نهلة رمضان، وهي ابنة الكابتن رمضان وحصلت على بطولة العالم في رياضة رفع الأثقال، وهي التي قامت بالبطولة، وعُرض الفيلم في عدد من مهرجانات السينما الدولية.
وهو سيناريو شبيه بفيلم “يوم الدين” الذي يعكس قصة حقيقية عايشها المخرج أبوبكر شوقي فى مستعمرة للجذام، وبطل العمل هو راضى جمال، والذي شفي بعد تلقيه العلاج من المرض، وحصل على إشادات واسعة عقب مشاركته فى مهرجان كان.
وفاز فيلم “ستاشر.. أخشى أن أنسى وجهك” للمخرج المصري سامح علاء بالسعفة الذهبية في مهرجان كان لعام 2020، وهو من بطولة الوجه الجديد سيف حميدة.
وترشّح فيلم “كباتن الزعتري” للعديد من المهرجانات الدولية ومنتظر عرضه في نيويورك ولوس أنجلس بدءا من التاسع عشر من نوفمبر الجاري، وهو من بطولة محمود داغر وفوزي رضوان قطليش، وهما من الشخصيات الحقيقية التي تقف لتمثل للمرة الأولى في السينما، ويعيشان في مخيم الزعتري للاجئين بالأردن، ومغرمان بكرة القدم.
ويفسّر نقاد شغف المخرجين الشباب بهذه الأفلام بأنهم بالفعل يريدون الدخول إلى الشهرة من باب جذاب، ولن يجدوا أكثر من قضايا المهمشين إثارة وجاذبية، وفتح المجال لتعاطف إنساني، ويصطحب اللعب على هذه المنطقة شجونا من المنتمين لموضوع الفيلم ومن خارجهم، ويخلق جدلا وتجاذبا بين المؤيدين والرافضين له.
ويبدو أن بعض المخرجين أدمنوا الأفلام التسجيلية، وقد يؤدّي غرامهم بها إلى عدم قدرتهم على تقديم أفلام روائية طويلة وعادية، فكثرة اعتمادهم على خامات فنية غير محترفة ربما يضع أمامهم مشكلة في مواجهة النجوم الكبار.
كما أن الأفلام التسجيلية لا تقدّم وجوها تصلح لبطولة الأفلام العادية على الضفة الأخرى، حيث تتطلّب قدرا كبيرا من الاحترافية، لذلك قد تنتهي صلاحية عدد كبير من هؤلاء بفيلم أو اثنين، ومن يقرّرون مواصلة الطريق والخروج من عنق الأفلام التسجيلية عليهم صقل مواهبهم، لأن اختيارهم لأدوار معينة يعكس موهبتهم في توظيف مهارتهم في تجسيد حياتهم الحقيقية، وهنا لا يمثلون فنا يساعدهم على مواصلة الطريق.