نامت بريطانيا ولم تستيقظ
في اليوم التالي لتوقيع وقف إطلاق النار بعد انتهاء القتال في الحرب العالمية الثانية استيقظ الناس في بريطانيا مختلفة. كان اليقين حينها هو المحدد الحاسم لمشاعر البريطانيين وتطلعاتهم، حتى حينما أدركوا لاحقا أن زمن الإمبراطورية قد ولى.
كانت بريطانيا تستعد لدخول حقبة جديدة من “الشراكة عبر الأطلنطي” في مقابل تخليها عن الإمبراطورية لصالح قوة صاعدة جديدة هي الولايات المتحدة.
اليوم يأمل القوميون واليمينيون في استعادة أيام الإمبراطورية مرة أخرى. ذهب الناس إلى غرف نومهم الخميس واستيقظوا صباح الجمعة في بلد مغاير تماما.
يدرك البريطانيون اليوم أن هذا البلد الذي تركهم وتركوه الخميس لن يعود إليهم أبدا.
كانت النتيجة في كلتا المناسبتين أن ترك رئيس الوزراء منصبه بعدما سحب البريطانيون منه الثقة لقيادتهم. الفرق أن وينستون تشرشل رحل منتصرا في حرب غيّرت وجه أوروبا إلى الأبد، بينما يرحل ديفيد كاميرون مهزوما في معركة قد تعيد رسم وجه أوروبا مرة أخرى. ترك تشرشل خلفه أمة موحدة يقودها اليقين في المستقبل، وترك كاميرون خلفه أمة ممزقة بين خيارات يمينية متطرفة تستعد للتعايش مع سنوات طويلة من عدم اليقين.
عاقب البريطانيون الطبقة السياسية من برلين إلى لندن بعنف وقسوة. أرادوا إثبات أن عصر الانفتاح والتعايش المتمثل في النموذج الأوروبي الفريد لم يعد صالحا لعالم يحكمه الانغلاق والتطرف.
راهن نايجل فراج ودونالد ترامب وماري لوبان على هذه اللحظة وكسبوا الرهان. اليوم على العالم التعايش مع قادته الجدد.
يدرك السياسيون التقليديون ذلك جيدا، لكنهم يعتقدون أن بإمكانهم إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.
يأمل داعمو معسكر بقاء بريطانيا في الاتحاد أن يستطيع قادته، خصوصا ألمانيا، معاقبة لندن على خياراتها، عبر إرغام المصوتين لصالح الخروج على إعادة النظر مرة أخرى في سياساتهم.
كما غيرت ألمانيا شكل أوروبا في الحرب العالمية الثانية، تتطلع الأنظار إليها مرة أخرى لتكرر الشيء نفسه في لحظة لا تقل أهمية. يأمل الأوروبيون في جعل الرجل الذي طلّق زوجته في ومضة غضب خاطفة يقتنع بأنه مازال يحبها. لكني لا أعتقد أن أوروبا مازالت لديها القدرة على القيام بهذه العملية الانتحارية. لن تفجر أوروبا نفسها فقط كي تقتل بريطانيا أو كي تجعل منها عبرة لليمين في باقي دول الاتحاد.
يفهم الساسة الأوروبيون أن ليس ثمة مفر أمام الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية سوى في تركيز كل قوته على المجداف الوحيد الذي يمسك به في قارب يصارع أمواجا عاتية.
تدرك أوروبا أيضا أن لا أحد يمسك بالمجداف المقابل سوى بريطانيا.
على الشاطئ يقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقد بدا وكأنه يعيش أسعد لحظاته. يدرك بوتين أن ثمن تصدعات المعسكر الغربي لا يصب سوى في مصلحة روسيا التي دفعت هذا الثمن مضاعفا من قبل.
ما يخشى منه داعمو أوروبا وخصومها في بريطانيا هو أن تستحيل هذه التصدعات والشروخ أنقاضا على رؤوس الجميع. بمعنى أن تجد الدول نفسها تتآكل من الداخل.
لم تمهل نيكولا ستيرجون، رئيسة وزراء أسكتلندا، البريطانيين وقتا لالتقاط الأنفاس قبل أن تعلن أن الإجراءات لتنظيم استفتاء جديد على انفصال أسكتلندا عن بريطانيا قد بدأت. تبدو ستيرجون، القومية الانفصالية، مستعدة لفعل أي شيء كي تبقى بلادها جزءا من أوروبا. لا مانع أيضا من اقتناص الاستقلال عن لندن وسط هذا الزلزال التاريخي وما سيخلفه من فوضى عارمة.
لعب الأسكتلنديون، الذين صوت 38 بالمئة منهم لصالح الخروج على عكس ما كان متوقعا، دورا حاسما في دفع بريطانيا إلى الظلام.
لو كانت أسكتلندا قد صوتت لصالح الانفصال عن بريطانيا قبل ما يقرب من عامين ما كانت بريطانيا تستعد اليوم للخروج من الاتحاد الأوروبي.
في المقابل دعا اليمينيون في هولندا وفرنسا إلى إجراء استفتاء مماثل على عضوية البلدين في الاتحاد.
بين من يريد العودة إلى أوروبا ومن يريد الخروج منها يبدو بوريس جونسن الرابح في كل الأحوال. كافح بوريس للوصول إلى مقعد رئيس الوزراء في السابق. اليوم تغيّرت الشروط.
بعد استقالة كاميرون يعلم بوريس أن رئيس الوزراء المقبل لن يفعل شيئا سوى محاربة طواحين الهواء. ستضع مهمة التفاوض على كل الاتفاقيات التي كانت بريطانيا تحظى بها يوما مع الاتحاد الأوروبي خلال العامين المقبلين، حكام لندن الجدد تحت رحمة دول الاتحاد، بعدما كان الكثير منها في السابق تحت رحمة بريطانيا.
رغم ذلك يبدو بوريس متحمسا ومستعدا للخوض في مستنقع بلا قاع قد يحدد تاريخ بريطانيا.
بعد مرور ما يقرب من 75 عاما يتذكر البريطانيون ما كتبه تشرشل لوزير خارجيته أنطوني إيدن عقب الانتصار في معركة العلمين خلال الحرب العالمية الثانية عندما قال “قد يكون من الصعب الآن تصور أنني أتطلع إلى تأسيس الولايات المتحدة الأوروبية التي لن يكون للحدود بين الدول فيها وجود، وسيكون السفر بينها من دون قيود”.
بعد 75 عاما من الآن سيتذكر التاريخ كاميرون بأنه الرجل الذي أغرق السفينة التي كان تشرشل يحلم ببنائها.
كاتب مصري مقيم قي لندن