ناصر القصبي صاحب مشروع نقدي يقترب من الخطوط الحمر

الرياض- لا يمكن لمشاهدي مسلسل ”العاصوف“ بجزئه الثالث الذي قدّم في رمضان هذا العام إلا أن يلاحظوا أن العمل كله يصبّ جام غضبه على تخلف الكثير من الظواهر في المجتمع السعودي، ليس فقط ما يتعلق منها بما عرفت بـ”الصحوة“ بل طال أيضاً حالات الفساد الأخلاقي والإداري وانحلال القيم لدى بعض الشرائح.
ومن وصلتهم ألسنة لهب ”العاصوف“ لم يكونوا فقط هؤلاء، إنما تجاوز المشرف على المسلسل ونجمه الأبرز الفنان ناصر القصبي كل ما سبق وأن تم طرحه حول تلك المشكلات، إلى نقد الدولة السعودية والعهود السياسية الماضية التي سهّلت وربما تواطأت مع المتطرفين وحولتهم إلى شرطة سرية لبرمجة المجتمع والسعوديين وإبقائهم في حالة فرار من مطاردات حتمية كل لحظة.

من جانب آخر يكشف المسلسل تعاون الدولة السعودية مع الإخوان المسلمين الذي قدموا من مناطق عربية مختلفة، مصر أولاً، وذلك نكاية بعبدالناصر الذي كانت علاقة نظامه متوترة مع الحكم السعودي أيام الملك فيصل بن عبدالعزيز وقبله شقيقه سعود بسبب حرب اليمن والتنافس على زعامة الأمة العربية، إلا أن هذا البعد لم يفصّل فيه المسلسل بشكل موضوعي ربما لأسباب تتعلق بالعلاقات ما بين الرياض والقاهرة اليوم.
ولاعتبار مشابه، ولكن بالعكس هذه المرة، حرص القصبي على أن يظهر كيف قاد الإخوان المسلمون السوريون عملية تسلل إلى المجتمع السعودي، وللمفارقة كان مدخلهم إلى ذلك بطون الرجال السعوديين الذين وقعوا في حب الكنافة السورية والنساء السوريات اللائي يصنعنها فتزوجوا منهن وبالتالي بات لدى قادة الإخوان السوريين عميلات في بيوت السعوديين. بالطبع هو تفسير كاريكاتوري لما حدث، وتم عرضه في الجزأين الأول والثاني، إلا أن الجزء الثالث قال ما لم يكن يقله من قبل، فالمسلسل لا ينكر أن الدولة السعودية منحت هؤلاء جوازات سفر وجنسيات سعودية حين كان لديهم استخدام في فترات معينة، كما فعلت مع غيرهم.
حفنة من الإخوان، لا تعدّ ستة أصابع، يجتمع أعضاؤها في البيوت سراً ويتحدثون عن مشاريع لتغيير نظم الحكم العربية وتولي السلطة، حتى في الدولة التي استضافتهم، السعودية، وقد لا يكون هذا خيالاً من المؤلف، لأن سذاجة الطروحات الإخوانية تعزّزه وتظهر الوثائق مدى طوباويتهم والأوهام التي ساقتهم إلى ما ساقتهم إليه، ولو أنهم فكروا بواقعية ودون عقل تآمري لربما كان هذا أفضل لهم ولغيرهم ولما كان مصيرهم سيكون إلى الاصطدام الدائم بالحائط.
طريق الإرهاب
يحاول ”العاصوف“ أن يقول من خلال شخصية خالد الطيان التي قدمها القصبي، أن الذكور السعوديين كان مشغولين طوال الوقت بالزيجات وبالتجارة، ولم يكن لديهم أيّ اهتمام بتنشئة أبنائهم أو الاهتمام بهم وبتطورهم وسط مجتمع شديد الوعورة تجوبه وحوش شرسة تنهش في الأبرياء وتطاردهم حتى في البيوت والمطاعم وشاشات التلفزيون والمقصود بهؤلاء ”هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر“ التي يفتقدها بعض السعوديين اليوم، وربما تمت إعادتها بشكل خجول في بعض المناطق.
فراغ تركه الجيل السعودي الذي شهد الطفرة الأولى والثانية، وتم حرمانه من المشاركة السياسية، لأنها منعدمة أساساً، ولكن حتى المشاركة في مسيرة أو مظاهرة للتعبير عن موقف عربي مع فلسطين مثلاً كان ممنوعاً. إضافة إلى تقييد الحريات بشكل كبير، بما يجعل من تناول كأس بيرة عملية إجرامية بامتياز، ولم يقصّر ”العاصوف“ في رسمها وتشخصيها بشكل دقيق ومتكرر. ذلك الفراغ ملأه الانحلال والمخدرات والرحلات السياحية المشبوهة إلى بانكوك وغيرها، قبل أن يعود منها هؤلاء السياح ليتحولوا بقدرة قادر إلى جهاديين في أفغانستان للتكفير عن معاصيهم وذنوبهم. وهكذا يرحل صهر العائلة تاركاً زوجته لأهلها إلى أفغانستان في الثمانينات، ثم يعود بعد أن يكون قد تزوج هناك، ليعمل في مهن بسيطة مثل بيع التمر أمام المساجد، لكن هدفه ليس الربح بل اصطياد المصلين لضمهم إلى خلايا سرعان ما سيتضح أنها تتبع تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن.
سيرة السعوديين

أثناء ذلك كان القصبي يطوّر من جميع الشخصيات كما روى أصحابها في لقاءات تلفزيونية على منصة شاهد بعد انتهاء عرض هذا الموسم، غرض الفنان الكوميدي الذي اشتهر بلوحات ”طاش ما طاش“ وبمسلسل ”سيلفي“ الساخر أن يقدّم نوعاً من العمل الملحمي لم يتردد بوصفه أنه حلم أن يكون مثل ”ليالي الحلمية“.
وضمن الإمكانات الفنية المتاحة والنص، ظهر ”العاصوف“ مختلفاً عن ”ليالي الحلمية“ رائعة أسامة أنور عكاشة وصلاح السعدني ويحيى الفخراني ونجوم مصر الكبار، لكنه ظل في سياقه، كخطوة إلى إنتاج دراما ذات نفس طويل مع أجيال تنمو وتظهر أجيال بعدها في خط حكائي جاذب للمشاهدين.
الأهم أن المسلسل استطاع أن يظهر للسعوديين والسعوديات صورهم في المرآة، وكان صادقاً ودقيقاً وقاسياً في كل نموذج تناوله. الشباب والشابات والرجال البسطاء والموظفون والأمهات والنساء الباحثات عن المال والأزواج عند الطلب. ولعل التقريع الذي تعرّض له المجتمع السعودي من هذه النواحي يعادل ما تعرض له المتشددون دينيا. فالخلل الاجتماعي واحد مهما تعددت أقنعته.
الأم الجامعة التي أدت دورها الفنانة ليلى السلمان، والتي يطيع أمرها كل أفراد الأسرة دون تردد وكأنهم أطفال صغار، تمثل صورة حقيقية للمجتمع السعودي الذي يحتفظ بتلك القيم مهما اختلفت بيئاته ومشاربه، إلا أنه يقدّس الأب، وهو مجتمع بدوي يقوم على قيم البداوة والمركزية في القيادة.
أحداث سياسية وردود فعل
يغيب الطابع الدرامي في الكثير من حلقات ”العاصوف“، حتى حين يقطعه القصبي ببعض المشاهد الكوميدية التي لا تغادر رصانة شخصيته الحالية في المسلسل، وكل ذلك لصالح إظهار السياق التاريخي، إذ لا يمكن كتابة عمل ملحمي كما يتمنى القصبي من دون التاريخ، والتاريخ مليء بالأحداث، وهي مغرية للتصوير.
في الجزء السابق كان تصوير اقتحام الحرم المكي على يد عصابة جهيمان العتيبي قبل عقود عملاً استغرق الكثير من الجهد والطاقات من قبل المخرج السوري المثنى صبح، وكان استخدام إعادة خلق المكان غرافيكياً عملية غير مسبوقة في الأعمال التلفزيونية الدرامية. في هذا الجزء لم يتم الاستناد إلى مثل هذه الحلول، فاكتفي بالأفلام التسجيلية التي تظهر الغزو العراقي للكويت وفرار الكويتيين، ومن ثم حرب ”عاصفة الصحراء“ وتحرير الكويت، وكل ما يتعلق بذلك من انطباعات حاول المسلسل أن يظهر فيها مرة موضوعياً ومرة منحازاً، لكنه استطاع اغتنام تلك العقدة الزمنية والمفصلية التي غيرت وجه الأمة العربية بعدها، للحديث عن العديد من القضايا.
أهم تلك الملفات هي انشطار العرب إلى مؤيد للغزو ومعارض له، وانشطار المؤيدين بين رافضين للفكرة ومتمنين لو تم تأجيلها. وانقسام المعارضين إلى معارضين دينيين ومعارضين قوميين عرب ومواطنين عاديين روّعهم ما شاهدوه من الطرفين، جيش صدام حسين، والرد الأميركي الغربي الخليجي عليه، وكلاهما كان رهيباً حينها.


كانت فرصة للقصبي للنبش في مواقف الإسلام السياسي الذي لم يصدر بيان إدانة واحداً ضد الغزو. ما تسبب بهجرة معاكسة هذه المرة من السعودية إلى أوروبا لتستقر قيادات الإخوان ومن شابههم في لندن وبقية المنافي.
هناك من بين المعترضين على قرار استقدام القوات الأجنبية تحت ذريعة أنه أعاد الصليبيين إلى جزيرة العرب، من أصدروا بيانات، حرص المسلسل على اعتبارها تحريضية حتى بلسان أبطال قصصها، وهؤلاء سيتنصلون من مواقفهم ويفر بعضهم إلى لندن أيضاً ليصبح معارضاً للنظام السعودي فارغاً وفاسداً مالياً.
مغادرة القصبي لعالم التهريج مكّنته من التوغل أكثر في الملفات الساخنة، رغم صعوبة تلك المغادرة ورغم الضغوطات التي تعرض لها من قبل أعز أصدقائه وشريكه في الفن الممثل النجم عبدالله السدحان وصولاً إلى المستشار تركي آل الشيخ الذي تمنّى عليهما أن يقدّما هذه الموسم عملاً مشتركا. أراد أن يتخلص من شخصية المضحك إلى شخصية الفنان القدير ”المبكي“، وهي معادلة صعبة للغاية. جهّز مسيرته بالعديد من الإجراءات من أجل مثل هذا التحول، ولم يبق له سوى محاولة تجاوز الخطوط الحمر. وفعل هذا في ”عاصوف 2022“ ولكن هل سيكون لذلك ثمنه؟
حتى هذا اليوم، ومع كل الترحيب الذي حظي به المسلسل، لم يجد القصبي ردود الفعل التي ينشدها، طموحه أن يحصد المزيد وأن يخرج الصامتين عن صمتهم.
الكثيرون التهب عندهم الحنين إلى ذلك الزمن الذي بدا بسيطاً عفوياً، قبل أن يشوبه التعقيد والمصالح. وآخرون لا يعرفون شيئاً عن تلك المرحلة كما يقول القصبي، وهم يرون شيئاً لم يكونوا يتخيلونه من قبل.
وبعد أن أنهى عرض مسلسله خرج القصبي منه بمشهد دامع أثّر في الملايين من السعوديين الذين خسر الكثيرون منهم أبناءهم في حروب المتطرفين. حين قابل ابنه سامي في السجن وأخذ يعاتبه على المشاركة في تفجيره مبنى سكني بعد أن انضم إلى جماعة إرهابية. هذا المشهد تم تداوله بشكل كبير على السوشال ميديا ما يعكس نجاحه في النفاذ إلى وجدان السعوديين والسعوديات.
هل يتورط القصبي في جزء رابع؟ سبق وأن قال إنه لا يعرف. لكن الزمن يجري وهناك أحداث ستقع، وتطورات ستضرب تاريخ كل شخصية من شخصيات المسلسل برياحها العاتية. وما سيقود القصبي نفسه وعمله إليه في مستقبل قريب إن واصل حكايته سيكون نقد اللحظة السياسية بعد أن انتقد باستحياء أخطاء وخطايا أجهزة الأمن السعودية وتوجهات الدولة التي سهّلت أمور المجاهدين وموّلتهم في القصة الأفغانية المعروفة. لكن ماذا بعد ذلك؟ سيبقى الأمر رهنا بمغامرة القصبي وطول نفسه فيها.

◙ ألسنة لهب "العاصوف" لم تكو الفاسدين والمتطرفين وحدهم، إنما تجاوز القصبي ذلك إلى نقد الدولة