مياه الصرف الصحي تهدّد أهوار العراق التاريخية

"جنة عدن" مستنقع يختنق فيه الناس والسمك والجواميس.
الخميس 2021/05/06
يستحيل العيش في المياه الآسنة

لا تهتم السلطات في العراق بشأن الناس ومحيطهم الذي يعيشون فيه. فسوء إدارة مياه الصرف الصحي التي تتدفق مباشرة من الأنابيب في أهوار الجبايش، وهي من أهم المسطحات المائية في جنوب العراق، تهدد حياة الناس والتنوع البيئي الذي تمتاز به المنطقة.

أهوار الجبايش (العراق) - تتعرّض الأهوار التي عُرفت تاريخيا بموطن جنة عدن وتنتمي اليوم إلى التراث العالمي إلى التهديد أكثر من أي وقت مضى بسبب سوء إدارة مياه الصرف الصحي فضلا عن تغيّر المناخ.

فمياه المجاري الثقيلة تتدفق من أنابيب الصرف الصحي مباشرة في أهوار الجبايش وهي من أهم المسطحات المائية في جنوب العراق، مهددة بتلويث البيئة الحياتية للموقع.

وفي بلد تفتقر فيه الدولة إلى القدرة على توفير الخدمات الأساسية، تُلقى 70 في المئة من نفايات العراق الصناعية مباشرة في الأنهار أو في البحر، وفقا لبيانات جمعتها الأمم المتحدة وأكاديميون.

ويقول جاسم الأسدي مدير منظمة طبيعة العراق غير الحكومية التي تُعنى بحماية الأهوار “تصب محطة مجاري المياه الملوثة الثقيلة الضارة بالبيئة في الأهوار دون أي معالجة لها، وهذا يؤثر بشكل مباشر على تنوع الأحياء النباتية والحيوانية فيها”.

ويضيف الأسدي الذي غادر عمله في وزارة الموارد المائية ليتفرغ للعمل التطوعي لحماية البيئة، “تؤثر مياه المجاري بصورة غير مباشرة على صحة الإنسان من خلال ما يستهلكه من منتجات حيوانية تعتمد صناعتها على الأبقار والجواميس الطافية فوق مياه الأهوار”، ولاسيما قشطة القيمر وهي طبق عراقي بامتياز.

70

في المئة من نفايات العراق الصناعية تُلقى مباشرة في الأنهار أو في البحر

ويعيش سكان الأهوار في عمق المناطق الرطبة، ويعملون في تربية الجاموس في أماكن معزولة لا يمكن الوصول إلى معظمها إلا عن طريق القوارب.

وفي 2018، تسبب صيف شديد الحرارة أعقبه قلة الأمطار في حدوث جفاف خطير. وانخفض منسوب المياه في بعض المناطق لأكثر من ثلاثة أقدام.

ونتيجة لذلك فقد مربيو الجاموس حوالي ثلث ماشيتهم، واضطر الكثيرون إلى المغادرة عندما تحولت المناطق إلى صحراء، مهاجرين إلى الضواحي الفقيرة والمدن المجاورة.

ويقول نادر محسن وهو مربي جاموس وصيّاد أسماك يعيش في الجبايش في محافظة ذي قار، إن “أغلب الجاموس لا يستطيع اليوم أن يشرب من الأماكن القريبة من أنابيب الصرف ويضطر إلى اجتياز عدة كيلومترات داخل الأهوار ليجد مياها غير ملوثة”.

ويضيف محسن وهو يشير إلى السمك النافق الطافي على سطح المياه، “مياه الصرف الصحي تسببت في نفوق الكثير من الأسماك وباتت تهدد كل الحيوانات التي تعيش على مياه الأهوار”.

وليس التلوث سوى واحد من التهديدات التي تعرضت لها المسطحات المائية مترامية الأطراف التي تعد أوسع دلتا داخلية في العالم.

فهذا الموئل الثري الممتد بين دجلة والفرات حيث ينمو قصب السكر وتعيش أنواع كثيرة من الطيور والأسماك بالكاد نجا من التدمير في عهد صدام حسين الذي أمر بتجفيف الأهوار في 1991 بعد أن صارت ملاذا لمعارضيه.

وأدى التجفيف إلى تقليص الأهوار إلى نصف مساحتها التي كانت تقدر بنحو 15 ألف كيلومتر مربعة في 1991.

وقبل بضع سنوات، ظن محسن وغيره من سكان الأهوار أنهم سيرون جنة عدن تزدهر من جديد. ويقدر عدد سكان هذه المسطحات المائية بعدة آلاف من العائلات المنتشرة في المنطقة الممتدة بين محافظات ميسان وذي قار والبصرة ويغلب عليها الطابع الريفي والعشائري.

فالمياه عادت بعد عام 2003 إلى تلك المناطق بعد إزالة السدود الترابية التي بنيت في فترة صدام، وعادت إلى المنطقة أكثر من 200 نوع من الطيور وعشرات الأنواع من الحيوانات البرية.

كما بدأ السياح ومعظمهم من العراقيين يتوافدون على المنطقة للقيام بجولات في القوارب وتناول السمك المشوي.

لكن الروائح الكريهة المتدفقة من مياه الصرف الصحي تدفع الناس إلى تجنب زيارة المنطقة حاليا، فيما تقول السلطات المحلية إنها لا تتحمل وحدها مسؤولية عدم معالجة مياه الصرف.

مياه المجاري تؤثر بصورة غير مباشرة على صحة الإنسان
مياه المجاري تؤثر بصورة غير مباشرة على صحة الإنسان

وتقول السلطات إن السكان يقومون بإجراء وصلات غير قانونية لأنظمة تصريف مياه الأمطار لأنها غير متصلة بنظام الصرف الصحي، بينما لا تقدم الحكومة الأموال اللازمة لمجلس المحافظة لبناء محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي.

ويقول المهندس حيدر رزاق مدير مجاري ذي قار إن “سبب عدم وجود وحدات معالجة لمحطات الصرف الصحي يعود إلى كلفتها المالية العالية. فنحن نحتاج إلى نحو 100 مليار دينار عراقي (69 مليون دولار)”.

ويضيف “يوجد لدينا الآن مشروعان لمحطات المعالجة، أحدهما كان يفترض أن يبدأ العمل منذ العام 2015 لكن لم يتحقق ذلك بسبب الأزمة المالية”.

لكن الأسدي الذي عمل مؤخرا مع خبراء أوروبيين وأميركيين لإيجاد حل لهذه المشكلة، يقول إن الحل بسيط وطبيعي “ويكمن في استخدام النباتات لتنظيف مياه الأهوار عبر تقنية تسمّى التكنولوجيا النباتية. لكن السلطات للأسف لم تعر تلك المقترحات أي اهتمام”.

وأضاف أنه عندما أدرجت اليونسكو الأهوار في قائمة التراث العالمي في عام 2016 “تعهّد العراق بالحفاظ على النظام البيئي وتقديم خدمات وظيفية لمجتمعات الأهوار”.

ولكن اليوم، وفي حين تصنف الأمم المتحدة العراق على أنه “خامس دولة في العالم معرضة لتهديدات” التغير المناخي، لم تعد إعادة تأهيل الأهوار مسألة مهمة للحفاظ على التراث بل هي مسألة بقاء.

وحذّر برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 2019 من أن “التغير المناخي من المتوقع أن يقلل هطول الأمطار السنوي في العراق، مما سيؤدي إلى زيادة العواصف الترابية وانخفاض الإنتاجية الزراعية وزيادة ندرة المياه”.

ومع كل صيف حارق، تقترب البلاد من هذا الواقع المرير.

ويقول برنامج الأمم المتحدة للبيئة إنه في العام 2015 كان لدى كل عراقي 2100 متر مكعب من المياه المتاحة سنويا، مضيفا أنه بحلول عام 2025 ستنخفض تلك الكمية إلى 1750 مترا مكعبا، مما يهدد استقرار الزراعة والصناعة في البلاد على المدى البعيد، فضلا عن تهديد صحة سكانها البالغ عددهم 40 مليون نسمة.

20