موسم الحج إلى ضريح بورقيبة

رغم إجماع جل التونسيين على مكانة بورقيبة ومهابته لما تركه من نمط مجتمعي تونسي فريد، فإن الرجل تحوّل خاصة عقب ثورة يناير 2011 إلى أهم ورقة انتخابية تراهن عليها جل الأحزاب.
الاثنين 2019/04/08
بورقيبة الغائب الحاضر باستمرار وبامتياز في الساحة السياسية

مرت تسع عشرة سنة على وفاة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية التونسية عقب فترة الاستقلال عن المستعمر الفرنسي في عام 1956، لكنه ظلّ بمثابة الغائب الحاضر باستمرار وبامتياز في الساحة السياسية التونسية ليس لكونه تحوّل بلا شك إلى فكرة والفكرة لا تموت لينهل منها الناس في الشدائد بالنظر إلى ما تركه من إرث تقدمي رائد مرتبط بالمشروع المجتعمي للبلاد، بل ربّما لأن الساحة السياسية لم تنتج أيضا قامات سياسية من أمثاله أو أمثال الزعيم الوطني النقابي فرحات حشاد وغيرهما من المناضلين والأمثلة على ذلك تحصى ولا تعد.

ورغم إجماع جل التونسيين على مكانة بورقيبة ومهابته لما تركه من نمط مجتمعي تونسي فريد ورائد خاصة في مجال حقوق المرأة، فإن الرجل تحوّل خاصة عقب ثورة يناير 2011 إلى أهم ورقة انتخابية تراهن عليها جل الأحزاب التي تسمي نفسها بـ”الدستورية” نسبة إلى الحزب الحر الدستوري الجديد الذي أسسه الرجل في ثلاثينات القرن الماضي على أنقاض الحزب الحر الدستوري القديم الذي أنشئ في 1920، كما ظل شبح بورقيبة وظله يطاردان أغلب مكونات الطبقة السياسة المنقسمة حول رمزيته، إما تأليها لشخصه وإما دحضا لكل ما أنجزه رفقة رواد الحركة الوطنية التونسية طيلة عقود قبل الاستقلال وبعده.

ومع الإعلان عن مواعيد الاستحقاقات الانتخابية التشريعية والرئاسية التي ستجرى في موفى عام 2019، أطلق الدستوريون بمختلف خلافاتهم واختلافاتهم العنان لما بات يعرف بموسم الحج إلى ضريح بورقيبة في مرقده بمحافظته التي يعشقها المنستير في حركة باتت روتينية ومعهودة ولكنها ربما لم تعد تنطلي على طيف واسع من جمهور الناخبين الذين جرّبوا وراهنوا سابقا على البعض ممّن يحملون الفكر البورقيبي كشعارات دون تطبيقها على أرض الواقع مع وجود استثناءات شحيحة تُرجمت خاصة عبر تقديم مشروع للمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، الذي يعتبر امتدادا تاريخيا لمشروع بورقيبة التونسي الصرف.

رغم عجز وقصور الطبقة السياسية والمؤرخين والنخبة على حد السواء عن حسم المعركة الدائرة حول بورقيبة وسياساته، فإن أسئلة أخرى تطرح في علاقة بالمستحوذين على رمزية الزعيم الوطني

وتُهرول جل الأحزاب المتأبّطة ببورقيبة كمرجعية سياسية متنافسة ومتسابقة على زيارة ضريح الرئيس السابق والتقاط صور يتم نشرها بصفة دورية على الصفحات الرسمية للأحزاب لمسايرة سرعة الدقائق والساعات والأيام التي تسبق الموعد الرسمي للاستحقاقات الانتخابية من أجل حشد أنصار بورقيبة الذين يعتبرون من أهم الخزانات الانتخابية التي يمكن المراهنة عليها ليس فقط من قبل الأحزاب البورقيبية بل أيضا حتى من طرف الأحزاب الإسلامية التي تدعي التصالح مع بورقيبة أو اليسارية رغم الاختلاف معه في كل شيء تقريبا.

كل الأحزاب الدستورية أعلنت عن تأسيس مشاريعها السياسية قبالة ضريح آل بورقيبة، من حزب نداء تونس مرورا بحركة مشروع تونس والحزب الدستوري الحر وصولا إلى حزب تحيا تونس الذي يتزعّمه رئيس الحكومة يوسف الشاهد، لكنّ أغلبيتها فشلت بعلامة امتياز في اختبار البورقيبية عند أول امتحان عبر تفضيلها وتغليبها المصلحة والمناصب السياسية متمرّدة على إرثها الفكري بتحالفات جلها تقريبا مع حركة النهضة الإسلامية في الحكم وآخر هذه التجارب يشقها اليوم حزب تحيا تونس أو ما سُمي في تونس بحزب الحكومة.

ورغم عجز وقصور الطبقة السياسية والمؤرخين والنخبة على حد السواء عن حسم المعركة الدائرة حول بورقيبة وسياساته وفكره عبر تقديم طرح موضوعي يعدد الإخفافات والإنجازات على قدر المساواة، فإن أسئلة أخرى تطرح في علاقة بالمستحوذين على رمزية الزعيم الوطني، من قبيل ماذا قدّموا له؟ وبماذا كافؤوه عندما كان محاصرا من قبل زين العابدين بن علي ونظامه في قصر يكاد يكون مهجورا بإحدى ضواحي العاصمة  أو حتى لدى إخراجه من قصر قرطاج (قصر الرئاسة) صبيحة الانقلاب عليه من الدستوريين أنفهسم عام 1987 بطريقة قيل وخيض فيها الكثير من قبل من عاصروا تلك الفترة بوصفها كانت مذلة ولا تليق بتاريخية قائد وطني قضى سنوات من المنفى والترحال في سبيل التوق رفقة زعماء آخرين لتحرر تونس وإخراج المستعمر الفرنسي؟

ثم إن من يتسابقون اليوم لافتكاك إرث بورقيبة السياسي كل من جهته وبحاسباته الخاصة، هم أنفسهم كانوا شاهدين على العصر وشهود عيان لما لاحظه كل التونسيين بل العالم بأسره خلال مراسم جنازته في عام 2000 والتي لم تكن وفق المؤرخين أو البعض من رفاق دربه في مقامه، خاصة أنها لم تبث على الهواء مباشرة على التلفزة الوطنية التونسية لأن بن علي كان لا يريد سوى طمس هوية بورقيبة بل وكان محرجا بأن يهتف التونسيين وعلى مرأى ومسمع منه رفقة رؤساء دول أخرى “يحيا بورقيبة”، فماذا قدّم كل هؤلاء لبورقيبة حينذاك لكي تكون لهم الشرعية عند النطق بفكره وسياساته وبعثها وإشاعتها من جديد بين الناس؟

7