موت المغني
في ثمانينات القرن الماضي، أو في أوائلها تماماً، كنت أعوّل كثيراً على ما تقدمه الذكرى من عونٍ أعيش عليه، في غربةٍ لم تكن مفروضةً عليّ تماماً، لكنها في الوقت ذاته لم تكن اختياراً محضاً. في تلك الأيام بلغني وأنا في مدينة أكستر البريطانية، أيام دراستي، خبرُ الأغنية التي ماتت، هي ومغنيها، في لحظةٍ واحدة.
أيّ مغنٍ وأية أغنية؟ وكيف لهما أن يموتا معاً في اللحظة ذاتها؟
يمكننا أن نجد في المجاز ملاذاً يوفر علينا، ربما، مشقة التأويل وتفرّع مآلاته وتعددها. لكنّ الأمر ليس كذلك، أعني أنه لا يتصل بالمجاز وحرية اللغة، بل يتصل بالواقع بكل ثقله ورهبته.
كما أنه لا يتعلق بموت موضوعيّ يتعرّض له أحد المغنين، مغنٍ يقف بعيداً عني، أو أنظر إليه بحيادٍ وجدانيّ تام، أبداً. فالمغنّي قريبٌ منّي قرباً نفسياً وإنسانياً صادماً، كما أن الأغنية المعنية، في عنوان هذه المقالة، نصّ قديمٌ لي، من نصوص البدايات، لم ينشر في أيّ من مجموعاتي. أغنيةٌ خاصةٌ جداً. أغنيتها، بل أغنيتنا معاً بكلّ المعاني. قفزتْ مني أو منها ، لا فرق، على ورقةٍ ملتهبة قبل ثلاثين عاما، في لحظةٍ من قلق الشباب وهواجسه. وكان غيابٌ ما، مكانيّ فقط ربما، على وشك الاندلاع بين اثنين كانا في ذروة محبتهما القاسية:
دعْني أنظر في عينيكْ- أبصر ذاك الماضي الحيْ/ دعْني أترك في كفيكْ عطري، وحنيني، ويدَيْ/ دعْني أرحلْ
لا بساطة أكثر من ذلك، ولا حنين أشدّ هطولاً. امرأة كاد أن يهلكها الخوف من غياب وشيك، من حنينها إلى من تحب، بينما هي لا تزال واقفة على مرمى آهةٍ منه لا أكثر، تتأمل أياماً قادمة مثقلة بالجفاء والوحشة. هكذا بدأت الأغنية، قبل أن تصرخ المغنية في نهاية النصّ من فرط محبتها: كيف سأرحلْ؟
وقبل أن تكتمل الأغنية تقتنصها عصْفةُ ريحٍ تائهةٍ دونما قلب.
دخلتُ مبنى إذاعة بغداد ذات يوم، وكنت عضواً في لجنةٍ لفحص النصوص. التقيتُ الفنان الراحل سمير بغدادي في أحد الأروقة، وكان حينها رئيساً لقسم الموسيقى. قال لي إن الفنان محمد عبدالمحسن لحن واحدة من قصائدي، ويقوم بتسجيلها الآن لفنانة معروفة في الأستوديو المجاور.
كنتُ ميالاً إلى صوت هذا الفنان، مع أنني لم ألتقه قبل تلك اللحظة. كانت أغانيه شديدة الانتشار بين الناس، لما تتميز به من عذوبة فائقة.. حين دخلتُ الأستوديو كان واقفاً في جانب منه، وكان صوت الفنانة المغنية يملأ هواء القاعة. أحسست لحظتها بأن تلك القصيدة البسيطة الصغيرة تكتسب عمراً آخر، تفيض على لغتها وتندفع بشحنة إضافية من الشجن المترف. ورغم ما في صوت الفنانة من دفء أنثوي وخفة أخاذة، إلاّ أن الأغنية أخذتني بعيداً عن لحظة الفراق الوشيك، وتلك الأنوثة المجروحة بهيام لا فكاك منه. التفت الفنان محمد عبدالمحسن، بعد أن أوقف التسجيل، يسألني رأيي في ما سمعت. أخجلني لطفه وتحضره وهو ينتظر مني رأياً في عمله.
كان الفنان قد بذل جهداً جميلاً في تلحين ذلك النص. غير أن إحساس المرأة بفجيعتها المقبلة كان يغيب أحياناً، أو هكذا أحسست، بين صخب الآلات وبهجة الأصوات النسوية في الكورس. حاولتُ أن أوصل إلى الفنان هذا الانطباع بأقل كلام ممكن وبأكثر تهذيب يستحقه.
وعدَني بلطف غامر، بأنه سيعيد تلحين ذلك النصّ قريباً. غير أن غراب الموت والكراهية، كان قادماً من بعيد، وكان أسرع من المغني. فظل وعده محلقاً في ذلك الفضاء البغدادي الملتهب الذي عصف بالمغني وسد الطريق على الأغنية. ومنذ ذلك اليوم، لا ضوء في المخيلة إلاّ بقايا من جسد المغني وشظايا الآلات، وإلاّ دماء أغنية في بدء ولادتها. وحتى هذه اللحظة، كلما سمعت أغنية من أغاني محمد عبدالمحسن، أخذني صوته العاتب المجرّح إلى داخل نفسي، إلى داخلها تماماً، فأيقظ فيها تلك اللحظة الفريدة من الأسى والندم والغياب الذي لا نهاية له.
شاعر عراقي