مواجهة الإرهاب تحدد مصير كونفدرالية الساحل الأفريقي الجديدة

تصنف منطقة الساحل الأفريقي كبؤرة للعنف والتطرف، فمنذ عام 2017 تضاعفت الأحداث المرتبطة بالحركات المسلّحة في مالي وبوركينا فاسو وغرب النيجر إلى 7 أضعاف. وهو ما يضع هذه الدول الثلاث المعزولة إقليميا ودوليا، بسبب الانقلابات العسكرية التي شهدتها، أمام تحدي مكافحة التطرف بمعزل عن دعم الشركاء المحليين والغربيين.
القاهرة - أضافت النيجر ومالي وبوركينا فاسو جدارًا عازلًا جديدًا بينها وبين دول الجوار بالتوقيع في نيامي أخيرا على منح التحالف الثلاثي صفة الكونفدرالية، ما يكرس القطيعة مع دول الساحل الأخرى والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) التي دخلت معها في خلافات عميقة.
ورسمت المعاهدة الموقعة في السادس من يوليو الجاري آفاقًا نظرية لتوحيد السياسة الخارجية والدفاعية، تعززها اتفاقيات متعلقة بالتنسيق العسكري وصك عملة واحدة تخرجها من منظومة الفرنك الأفريقي المرتبط بفرنسا، بجانب ملف الاقتصاد والتنمية الذي تضمن إنشاء طيران مدني ومحطة للطاقة في بوركينا فاسو وبناء مصفاة لتنقية الذهب في مالي بالاتفاق مع روسيا، ومد أنبوب لتصدير البترول النيجري إلى الخارج عبر ميناء دولة بنين بالاتفاق مع الصين.
ويمثل التوافق حول هذه القضايا تطورا مهما، لكن التحدي الذي قد يقف عقبة كأداء أمام هذا التحالف يتمحور حول ملف مواجهة خطر الجماعات المتشددة والإرهابية، والذي سيكون على رأس أولويات الكونفدرالية.
وتعكس الخطوة في هذا الاتجاه تصميمًا على رسم مسار خارج تكتل أكبر وهو إيكواس المدعومة أوروبيًا، وحثت الدول الثلاث على العودة إلى الحكم الديمقراطي عقب انقلابات عسكرية متتالية في الدول الثلاث خلال فترة وجيزة، ما يعني توجيه ضربة قوية للتعاون الأمني فيما يتعلق بتبادل المعلومات المخابراتية والمشاركة في الحرب على الإرهاب.
ومن المرجح أن يخلق تأسيس الكونفدرالية الثلاثية الجديدة التي جاءت عقب انهيار الدعم الدولي بعد خروج القوات الفرنسية والأممية من منطقة الساحل الأفريقي، وتفكك غالبية الجهود الإقليمية لمكافحة الإرهاب، فرصًا مضافة للجماعات المتشددة النشطة على حدود دول الساحل الأوسط ونطاق دول حوض بحيرة تشاد (النيجر ونيجيريا والكاميرون وتشاد).
ووفقًا لإحصائيات رسمية صادرة عن الأمم المتحدة وإيكواس فإن منطقة غرب أفريقيا تتصدر المشهد الإرهابي العالمي مع تسجيل أكثر من 3500 هجوم العام الماضي، خلّفت نحو سبعة آلاف ضحية وحدوث أزمات إنسانية ونزوح أكثر من مليوني شخص وإغلاق تسعة آلاف مدرسة.
ويتطلب حل مشكلة الإرهاب في الساحل الأفريقي رؤية عالمية ودولية بالنظر إلى أن شبكات الإرهابيين عابرة للحدود، مع أنه قد يكون أغلبهم من مواطني المنطقة، فضلا عن توقف تعاون دول مركزية في الساحل تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية وأمنية خانقة مع الدول الغربية وبرامج الأمم المتحدة، ومن غير المُرجح أن يعوض الدعم الروسي المتحفز أمنيا الشراكات الغربية والأميركية المتوقفة.
وبدأت التعقيدات الإقليمية قبل إعلان الاتحاد الكونفدرالي وفك الارتباط مع إيكواس، حيث توترت العلاقات بين النيجر وبنين، وبين مالي والجزائر، وتأزمت العلاقة أيضا بين باماكو ونواكشوط على خلفية تباين الرؤى بشأن كيفية التعامل مع المتمردين المسلحين على الحدود المشتركة.
وأدى غياب التنسيق الأمني والتعاون العسكري إلى اختراق مجموعة من قوات فاغنر والجيش المالي لإحدى مناطق الحدود المشتركة مع موريتانيا، ما دفع الأخيرة إلى القيام باستعراض عسكري لافت في المنطقة كاشفة عن قاعدة للطيران المسيّر قرب الحدود مع مالي.
وعلى الرغم من تسجيل مالي بعض النجاحات المحدودة في مواجهة تمدد وتوغل الجماعات الإرهابية بعد توقيع عدة اتفاقيات تعاون مع روسيا، ما أسهم في استعادة مناطق سيطر عليها متمردون وتحييد بعض الإرهابيين، إلا أن عدم وجود تنسيق إقليمي أدى إلى فرار أعداد كبيرة من الجماعات المسلحة إلى دول مجاورة، ما شكل تهديدًا كبيرا لها، خاصة لدول لم تكن تعاني من تهديدات إرهابية خطيرة، مثل موريتانيا.
وتعزز تشتيت الجهود بعد تكريس التمايز بين محورين، أحدهما مدعوم من فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي (موريتانيا وتشاد) والآخر يضم مالي وبوركينا فاسو والنيجر وأصبح تحت نفوذ موسكو، وبعد انهيار مبادرات طموحة متعلقة بإنشاء قوة مكافحة الإرهاب الإقليمية الموسعة، مثل تلك التي تبنتها إيكواس مدعومة من الدول الغربية.
مشكلة الإرهاب في منطقة الساحل ليست أمنية فقط، وإنما ترتبط أيضا بالظروف الاقتصادية والسياسية والانفتاح الدولي
ويمكن أن تعوض موسكو بعض النقص والقصور العسكري لدى جيوش الدول الثلاث عبر بيع الأسلحة والمعدات بسرعة أكبر من الولايات المتحدة دون تركيز على شروط احترام حقوق الإنسان والالتزام بالقانون الدولي الذي تدعو إليه واشنطن دوما، لكنها لن تكون قادرة على خلق طفرة كبيرة في القدرة التشغيلية لجيوش مالي والنيجر وبوركينا فاسو التي تأتي في ذيل قائمة الجيوش التي تفتقر لوجود قوات مدربة كافية العدد.
ولتحقيق هدف تجهيز جيوشها لمواجهة خطر التهديدات الإرهابية تحتاج الدول الثلاث إلى ميزانيات عسكرية ضخمة وإعادة البناء على أسس سليمة وسد العجز في التسليح الأرضي بمختلف أنواعه، وتوفير الموارد الجوية لمواجهة التطور الذي طرأ على أداء التنظيمات المتطرفة في هذا السياق، والمتمثل في استخدام المُسيرات على نطاق واسع.
وقد يصعب تعويض القدرات الاستخباراتية التي افتقدتها دول الساحل الثلاث بعد فك الارتباط مع القوى الغربية المتفوقة في هذا المجال، حيث أثبت سير الأحداث اختراق الأجهزة الاستخباراتية الغربية لتنظيمات إرهابية ناشطة في أفريقيا، وافتقار موسكو إلى هذه الميزة نسبيًا، علاوة على افتقار دول الساحل إلى أجهزة استخباراتية داخلية أو خارجية.
وأثبتت مستويات التصدي الغربي المتقدمة للعديد من العمليات الإرهابية حول العالم وفي العمق الأوروبي قبل وقوعها وتصفية الكثير من ناشطي الجماعات الإرهابية الحركيين، مقدار التفوق الغربي في مجال المعلومات والاستخبارات، مقابل نتائج محدودة لجهود موسكو في نطاق روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز، وحتى أفريقيا، كما أكدت أهمية دور الاستخبارات وصعوبة محاربة الإرهاب عبر عمليات عسكرية فقط.
ومع عدم تمكن القوات الدولية (الأوروبية والفرنسية) من إلحاق هزيمة شاملة بالتنظيمات الإرهابية والعجز عن تحقيق الأمن والاستقرار للسكان، ظل استمرار النشاط الاستخباراتي حائلًا دون تحرك القادة والعناصر النشطة بحرية، وضمن مع التواجد العسكري النوعي ردع التنظيمات الإرهابية عن تحقيق المزيد من التمدد والتوغل.
ولم يعد أحد كبار قادة تنظيم القاعدة في مالي ومنطقة الساحل إلى الظهور مؤخرًا، وهو إياد أغ غالي، بعد فترة هروب واختباء طويلة، إلا بعد مغادرة القوات الدولية، بالنظر إلى أن قوات فاغنر الروسية عاجزة عن أن تحل محل هذا العدد الهائل من القوات الغربية في ظل استمرار الحرب الروسية – الأوكرانية، ومحورية الدور الاستخباراتي الذي برعت في أدائه العناصر الغربية، والذي هدد حياة غالبية قادة الإرهاب في أفريقيا.
ولا تحرص فرنسا والولايات المتحدة ومجمل دول أوروبا على الإسهام في تحييد الإرهاب ومكافحته في دول الساحل الأفريقي فقط للحفاظ على مصالحها التقليدية إنما لمواجهة تحد وخطر مشتركيْن، حيث تمثل منطقة الساحل، تحديدًا دولة النيجر، نقطة عبور رئيسية للمهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء إلى دول في شمالها ثم إلى أوروبا، وينذر تصاعد العمليات الإرهابية هناك بزيادة معدلات الهجرة والنزوح.
ولم تكثف الجماعات الإرهابية من هجماتها بعد إنهاء دول الساحل الثلاث معاهدات التعاون مع الدول الغربية، إنما أعلنت انتصارها على القوى الأوروبية والأميركية المنسحبة، مستغلة المتغيرات لتغذية آلتها الدعائية على مقياس دعاية طالبان وتنظيم القاعدة في أعقاب الانسحاب العشوائي الأميركي من أفغانستان في العام 2021.
ولا تُعد مشكلة الإرهاب بمنطقة الساحل الأفريقي أمنية فقط، حيث ترتبط بالظروف الاقتصادية والسياسية والانعزال الدولي الذي جلبته الحكومات العسكرية تباعًا في الدول الثلاث، ما يؤكد أهمية المساعدات والمنح الغربية لدول تعاني من الفقر المدقع ومستويات مرتفعة من الجهل والجوع وانتشار الأمراض والبطالة، ما يصعب تعويضه في ظل غياب القوى التي امتلكت القدرة في فترة الخلافات حول حشد التمويل والتعبئة الدولية. وتفتقد جيوش مالي وبوركينا فاسو والنيجر مجتمعة القدرات العسكرية لمواجهة التوغل الإرهابي غير المسبوق في المنطقة بعد تبريد التنافس الشرس بين تنظيمي القاعدة وداعش ودخولهما في هدنة مؤقتة أكدت نهجهما البراغماتي واستعدادهما لتنحية الخلافات لتحقيق الأهداف المشتركة.
وزاد من مستوى التحدي وقوع اشتباكات دامية في مالي منذ أغسطس العام الماضي، على خلفية محاولة الطوارق تحقيق بعض المكاسب استغلالًا للفراغ الذي خلفه رحيل قوات حفظ السلام (مينوسما) عن البلاد.
وتقود خطط الانعزال وتوالي الانسحابات من الشراكات الإقليمية والدولية من قبل مالي وبوركينا فاسو والنيجر، مقابل مرونة فروع داعش والقاعدة وقدرتها على التكيف فضلًا عن عوامل عدة أخرى مثل القصور في الحكم والتوترات الطائفية، إلى المزيد من التدهور باتجاه توسيع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين الموالية للقاعدة وداعش في الصحراء الكبرى نطاق وصولهما جنوبًا والتعدي على الدول الساحلية في خليج غينيا. وجاء تأسيس الكونفدرالية بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر أخيرًا بعد سلسلة انسحابات هدفت إلى التمهيد لتوجهات إقليمية تبلورت بإعلان كيان حلف دول الساحل في سبتمبر 2023، وتبعه مباشرة الانسحاب من مجموعة دول الساحل الخمس وهيئاتها بما فيها القوة المشتركة للمجموعة.
وتوجت الخطوة الأخيرة جملة من القرارات في نفس الاتجاه، منها إنهاء المجلس العسكري في النيجر شراكته وعلاقاته العسكرية مع الاتحاد الأوروبي والانسحاب من الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة وإلغاء اتفاق التعاون العسكري في منتصف مارس الماضي، وسبقه انسحاب تحالف دول الساحل الثلاث من إيكواس، في نهاية يناير الماضي.
ووضعت دول الساحل المركزية الثلاث بإعلان الكونفدرالية نفسها في اختبار مصيري، بالنظر إلى أن نجاحها من عدمه في خفض معدلات الهجمات الإرهابية ووقف تمدد الجماعات المتمردة وتحسين الاستقرار في المناطق الأكثر عرضة للخطر مع تحسين ظروف المعيشة وتقليل أعداد النازحين، هو ما سوف يحدد شرعيتها ومستقبلها في السلطة.