من يلعب ضد من في سوريا

يبدو ما يحدث على الأراضي السورية مثل قطع الشطرنج التي ينقلها اللاعبون بحذر، ويفكرون جيدا في الخطوة المقبلة قبل تحريكها، وهذا لا ينفي أن هناك لاعبين آخرين ينقلون رقعهم بعشوائية واستهانة، ولا يفهمون قواعد اللعبة فيتصرفون بطريقة تؤدي إلى خسارتهم المباراة مبكرا، حيث تموت قطعهم الواحدة بعد الأخرى، وربما يحشرون الملك في زاوية ضيقة، ما يضطرهم للاستسلام في النهاية.
وهناك من يدركون فداحة الخسارة فيلجأون إلى إعادة تنظيم أوراقهم وصفوفهم أو قطعهم بالشكل الذي يمكنهم من استعادة المبادرة على أمل الصمود والمواجهة ومحاولة كسب جولة حاسمة من مباراة طويلة، تتكون من عدة أشواط متتالية أو متفرقة.
للمزيد من التوضيح حول ما يجري في شمال سوريا لا بد من معرفة أن هذه المنطقة كانت متروكة لأجهزة الاستخبارات التركية والقطرية تعبث وتمرح فيها بحرية كبيرة، وبالطبع أجهزة أخرى تابعة لدول متعددة ووجودها له درجات متفاوتة من التأثير، لكن اليد الطولى من نصيب أنقرة والدوحة، ما ساعدهما كثيرا على ترتيب رقع الشطرنج بالوسيلة التي تناسبهما.
◄ اختيار الوقت الذي أنهك فيه حزب الله واضطربت فيه أحوال إيران وارتبكت حسابات روسيا، أرخى بظلال سلبية على الأوضاع في الشمال، بالشكل الذي قد تسبّب في حدوث تحوّلات في المعادلة التقليدية
ولعبت تركيا، ولا تزال، في مسألتي الأمن واللوجستيات دورا مهمّا، وأسهم المال القطري الذي لم يتوقف تدفقه منذ اشتغال الحرب في سوريا قبل أكثر من عشر سنوات في تمويل العديد من الفصائل المسلحة ذات التوجهات الإسلامية.
ولذلك فكل من يحاولون إلصاق التهمة بإسرائيل والولايات المتحدة وحدهما سوف ينتهي أمرهم إلى خيبة، فالأولى بعيدة عن الشمال وضرباتها ركزت على دمشق والجنوب في معظم الأحيان، والثانية لا تنكر حمايتها للأكراد وفصيلهم المسلح (قسد)، وهذا لا يعني أن الدولتين غير مستفيدتين مما يجري على الأرضي السورية، حيث يتم توظيفه بما يخدم مصالحهما في المنطقة وأهدافهما مع دمشق.
يعلم من يتابعون الخارطة العسكرية والسياسية في شمال سوريا أن هيئة تحرير الشام على علاقة وثيقة بتركيا وقطر، وكل ما قيل عن قطع العلاقات معها الفترة الماضية تبين أن لا أساس له من الصحة، فالعملية الجريئة التي قامت بها الهيئة والفصائل المتطرفة المتحالفة معها تشير إلى تنظيم محكم ومعلومات دقيقة عن النقاط التي جرى التحرك نحوها، وهو ما وفّرته الدول المستفيدة من إرهاق النظام السوري وصولا إلى “دحره” هذه المرة، وتفشيل أيّ محاولة لإعادة تأهيله سياسيا.
كتب الكثيرون عن عملية التأهيل وضوابطها وأهدافها، وبثت وكالة رويترز معلومات نقلا عن مصادر مطلعة ما يفيد بوجود رغبة إماراتية لتمرير هذه العملية بتفاهم مع الولايات المتحدة، وجاءت التطورات الأخيرة لتجهضها وتعيد المشهد إلى مربع الحرب الساخنة والممتدة، والتي يمكن أن تحقق مكاسب لمن شجعوا وموّلوا وقدموا دعما لوجستيا لهيئة تحرير الشام لتتحرك عسكريا في الوقت الراهن.
تحتاج الدول التي لها روابط قوية مع نظام بشار الأسد أو راجعت موقفها وتصالحت وطوّرت وطبعت العلاقات معه وراهنت على إعادة تأهيله أن تسأل نفسها، ونحن أين كنا ممّا جرى؟ ذلك هو السؤال المحوري في القصة، لأن الإجابة عليه قد تفسر الكثير من الجوانب لما حدث في الأيام الماضية، وتكشف عن المدى الذي يمكن أن تذهب إليه خلال الفترة المقبلة، فمن يملك المعلومات ويتصرّف بسرعة يستطيع أن يربك خصومه ويشلّ تفكيرهم ويوفر مزايا تفضيلية لحلفائه والاستفادة من القبض على زمام مبادرة، تمكنهم من تثبيت أقدامهم لوقت طويل، وعندما يستفيق عدوهم تكون هناك تحولات قد حدثت، وتوازنات تظهر تفضي إلى هندسة الأوضاع بما يتواءم مع مصالحهم.
◄ من يتابعون الخارطة العسكرية والسياسية في شمال سوريا يعلمون أن هيئة تحرير الشام على علاقة وثيقة بتركيا وقطر،
ركّزت الدول الحليفة والصديقة والمنفتحة على النظام السوري على تمتين العلاقات العسكرية والسياسية معه، ولم تركز بالتوازي مع ذلك على تطوير تواجدها عمليا على الأرض ومواجهة الصعوبات المتدحرجة وما ينجم عنها من مفاجآت وصدمات، وتصوّرت أن الأمور شبه المستقرة سوف تظل على حالها.
وأنهكت بعض الدول جراء تعدد المشاكل الداخلية والإقليمية والدولية (مثل روسيا وإيران) وكانت رؤيتها قاصرة على ما يخدم مصالحها مباشرة في دمشق، وتجاهلت شمال سوريا والموزاييك العسكري والسياسي والطائفي الذي تضمه، ولم تنتبه إلى أن انفجاره يمكن أن يعصف بحساباتها البعيدة مع النظام السوري، وقد يكون خدعها الانفتاح القطري والتركي عليها وأنهما تخليتا عن الاستثمار في ورقة المتطرفين.
مهما كانت التقديرات في هذه الحالة، فالتركيبة التي يعج بها شمال سوريا لا تترك رفاهية نحو عدم الاقتراب منها ومعرفة ما يدور فيها أمام الأبواب وخلفها، لأن الحرب لم تتوقف نهائيا، وعلى العكس هناك عواصم إقليمية ودولية صديقة وقريبة من دمشق لها باع طويل في اختراق الجماعات المتطرفة وفهم تكتيكاتها، كيف لم تلحظ استعدادات هيئة تحرير الشام، ومد خطوط التواصل المتباينة التي تربطها بداعميها الأصليين بما مكنها من تقوية صفوفها.
هل خدعت هذه الدول معلوماتيا، أم لم تكن تقوم بدورها على أكمل وجه، أم وثقت أكثر من اللازم في الإشارات الايجابية التي تلقتها من تركيا وقطر؟
◄ تركيا لعبت، ولا تزال، في مسألتي الأمن واللوجستيات دورا مهمّا، وأسهم المال القطري الذي لم يتوقف تدفقه منذ اشتغال الحرب في سوريا في تمويل العديد من الفصائل المسلحة ذات التوجهات الإسلامية
في كل الأحوال، يبدو أن هناك خللا في المنظومة الاستخباراتية للدول التي تعلم أن أنقرة والدوحة لم تلقيا بورقة المتشددين، وتظاهرتا فقط بذلك، إلى حين واتت الفرصة للاستفادة منها، في خضم تطورات إقليمية مفتوحة على احتمالات متناقضة.
هو درس خطير للدول الحليفة أو تلك التي أعادت النظر في تصوراتها حيال النظام السوري، لأن التبعات التي سوف تترتب عليه وعرة، وقد تتسبب في التفكير والإمعان في ما حدث من تطور في العلاقات مؤخرا، فالعودة إلى توظيف المتطرفين في السياسة الخارجية بشكل سافر يعيد المنطقة سنوات إلى الوراء، ويعزز القناعات بأن التغير الظاهر في التوجهات الإقليمية لأنقرة والدوحة كان مراوغا وخادعا.
ويؤدي ثبات هذه الحالة والتيقن مما تحمله من أغراض قاتمة إلى فرز جديد، يمكن أن يستمد أجزاء من المشهد الذي ساد خلال فترة رئاسة دونالد ترامب الأولى، خاصة بالنسبة إلى قطر، حيث توترت علاقاتها مع بعض الدول العربية التي طورت رؤيتها الآن مع دمشق، وتعتقد في أهمية ابتعادها عن إيران وفتح نافذة واسعة مع الدول العربية بدلا من نبذ النظام السوري، وهي النقطة الحائرة، والتي أسهمت في عدم التركيز على الفراغ الأمني في الشمال السوري من جانب القوى الداعمة لدمشق.
وأرخى اختيار الوقت الذي أنهك فيه حزب الله اللبناني واضطربت فيه أحوال إيران وارتبكت حسابات روسيا، بظلال سلبية على الأوضاع في الشمال، بالشكل الذي قد تسبّب في حدوث تحوّلات في المعادلة التقليدية والجهات المتحكمة في مفاصلها، ويحتاج المراقب إلى وسيلة دقيقة تمكنه من التعرف على من يلعب ضد من في سوريا.