من يحشر أنفه في الثاني.. رجل الدين أم عالم التاريخ

خبراء يجدون أن سر الأزمة العربية الراهنة يكمن في عدم وجود مشروع فكري متكامل تتأسس عليه إرادة النهوض والانطلاق، سواء في ما يتصل بتحرير التراث الديني من انغلاقه المزمن، أو تحرير التاريخ من رواسبه وأثقاله.
وعدم الانخراط بشكل جدي وواضح في مشروع تجديدي عبر عملية نقد داخلي للذات بقراءة موضوعية واعية للتراث وللتاريخ، أفسح الميدان لذهنية الاستفتاء عن كل شيء ومطاردة صغائر الأمور، وهو ما يذكر بمشهد فقهاء وعلماء بيزنطة الذين كانوا يتلهون بالجدل العقيم حول جنس الملائكة وحجم إبليس بينما جيوش الغزاة تدك أسوار المدينة.
يرى البعض من المفكرين أن هناك تلازما بين ضرورة تجديد الدين بنقد التراث الديني وتفكيكه وصولًا لاستيعاب أفضل تعاليمه وجوهر رسالته، وهو ما يتطلب إزالة القشور والقوالب الجامدة والآراء الفقهية غير المناسبة للعصر، وضرورة تجديد التاريخ عبر تنقية مشابهة بالوقوف على التفسير الأصوب للحدث، وفق بلورة متكاملة قادرة على التعاطي مع التراث العالمي والكوني الحالي.
وهناك شبه بين آليتي التجديد الديني والتاريخي من جهة اختصاصهما بعملية التنقية والتشذيب دون اجتثاث الشجرة من جذورها.
ويرى مختصون أن الواقع العربي والإسلامي اليوم بحاجة للمفكر والفيلسوف والمؤرخ، لا للشيخ الذي يردد النصوص ويستدعي الآراء الفقهية ويروي الأحداث دون نقد وفرز وتمييز، فالمجدد لديهم هو القادر على إبعاد وإزالة كل ما يشكل عبئا على الواقع المعاصر وكل ما تراكم من قشور.
الأستاذ بجامعة الأزهر أحمد الشريف يجد أن الرؤية التاريخية مكملة للرؤية الدينية ولا مجال لتجديد إحداهما دون الأخرى، مشددا على ضرورة إخراج التاريخ من نطاق المرويات والأساطير، وتزويده بمناهج البحث والاستقصاء عبر دراسات اجتماعية وسياسية وفكرية تفتح له آفاقًا جديدة.
الاشتغال بالشكليات والقشور والجدل العقيم وتقديس الشخصيات، أحد أقوى أسباب التخلف
وأوضح لـ“العرب” أن القرآن كتاب هداية وليس كتاب تاريخ، وهو لا يعتني بالسرد التاريخي التقليدي ولا بأسماء الشخصيات قدر اعتنائه بالقضايا وما وراء طرحها من مقاصدية متعلقة بترسيخ القيم الإنسانية.
وينطوي الاستغراق في قضايا جدلية لم تحسم ولن تحسم على أبعاد تتجاوز التصنيفات إلى ترجمتها لمواقف عدائية تخريبية وصراعات طائفية وحروب أهلية مميتة، والجدل المكرر حول من هو الأحق بالخلافة بعد الرسول أنتج سلفيتين تحضان بالفتوى على قتل أتباع الأخرى وسفك دمائهم.
ولا يقف الخطاب السلفي في كل من الحالتين عند التصنيف السلبي والتنميط والتعصب فقط، فاعتبار المجتمع جاهليا وتقسيمه وهميا إلى ثيوقراطيين وعلمانيين أو سنة وشيعة، يترجم تلقائيا إلى أعمال عنف وإرهاب.
يظل التاريخ عبر هذا التوظيف مغذيا للكراهية والتنابذ والقطيعة والإرهاب، وسر من أسرار تمدد الحركات المغلقة على ذاتها أن الفكر الإسلامي المعاصر غاطس في امتثاليته التواكلية، ومشغول بحروب التحرير السياسية أو الأيديولوجية التي أهملت مهمة البحث عن الحقيقة وآفاق المعنى.
ويرى مفكرون أن الاشتغال بالشكليات والقشور والجدل العقيم وتقديس الشخصيات، أحد أقوى أسباب التخلف، وحلحلة تلك الإشكاليات المتعلقة بالواقع التاريخي مرتبطة بالإجابة عن تساؤلات مركزة حول طبيعة مسيرة الفكر وتعليل عدم مسايرته للواقع تعليلا مقنعا.
التعاطي مع التاريخ خطوة مستقبلية لإضاءة الحاضر، فهو ليس وليس سجل تمجيد تعالج به مركبات النقص أو مجرد أداة للتخدير، بل هو تطهير للذاكرة وإنارتها وصقلها، بغرض إعادة فهم دروس التاريخ، بما يمكن من صياغة مشاريع حضارية إستراتيجية واضحة للحاضر والمستقبل.
حالنا صار مثل علماء بيزنطة الذين كانوا يتلهون بالجدل حول جنس الملائكة وحجم إبليس بينما جيوش الغزاة تدك أسوار المدينة
ولكي لا يغرق البعض في أصولية وهمية تجعله يظن أنه لم يعد في الإمكان أبدع مما كان، وقدر العرب والمسلمين هو فقط اجترار العظمة الغابرة ومجد الأسلاف، تأكدت ضرورة إعادة فهم التاريخ، من جهة كونها فكا للقيود التي تعوق حل مشاكل الساعة، لذلك يعد التجديد التاريخي خطوة على طريق بناء المستقبل لا خطوة تراجعية نحو البقاء في الماضي.
ويرى مختصون أن هدف المؤرخ ليس مجرد عرض حقائق التجربة الإنسانية أو حتى فهمها فحسب، وإنما بعثها بإعطائها القيم والمثل الحافزة والبناءة المرتبطة بعصره، وهذا هو السبب في أن التاريخ لا يكتب فقط وإنما تعاد قراءته بواسطة أجيال متعاقبة.
ويحذر عبدالمقصود باشا أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر، من تكرار أخطاء الماضي، والتاريخ ما هو إلا إنذار مبكر لا يسمعه إلا من يجيدون قراءته ببصيرة ووعي.
وقال لـ“العرب” إن الحوادث التاريخية المجردة لا تحمل قيمة في حد ذاتها ما لم تتفاعل مع الفكر الإنساني، وهي تصبح ذات قيمة عندما تسهم في تغيير وضع الإنسان وتوجيه مساره.
وأوضح أن الهدف الفعلي من قراءة التاريخ لم يتحقق على نحو فعال حتى الآن، فالقراءة التاريخية معنية بالوقوف على أصول وأسباب المشكلات التي واجهت الأسلاف، ويمكننا تجنب الأسباب المشابهة التي تؤدي إلى خلق مشكلات مشابهة.
تجديد التاريخ عملية تجعل من كامل الواقع المتشعب والمترامي الأطراف شيئا له نظامه وانسجامه، مقابل الجدل العقيم والنقاش الذي لا يقتنع به أحد ولا يرضي أي أحد، ولا يكون فيه رأي جامع، وينتهي دائما كما بدأ دون إقناع ولا اقتناع، لتستمر كل الأطراف في اختلاف وخلاف.
والظن أنه لا جديد في مناهج التاريخ عما تم لدى مؤرخي الماضي، مرجعه شعور باطني يعكس حالة من الجمود على مستوى الرؤية والتوقعات، لا من التاريخ وحده بل من الأمل في استئناف تاريخ جديد في المستقبل.
ويعود العجز عن بلورة مشاريع حضارية إلى العجز عن فهم التاريخ واستيعابه ومن ثم الفشل في وصل الماضي بالحاضر بطريقة إبداعية خلاقة، فيثقل ذلك الماضي على الحاضر المتواضع ويلغيه ويزيده تواضعا.