من يتصالح مع من في ليبيا

تعدد الولاءات وازدواجيتها تجاوزا حدود التفسيرات الجامدة ولم يعد مستغربا أن تذهب قوة دولة أو جهة محلية في عنفوانها إلى التحالف مع من نبذتهم أو دخلت في خلافات عميقة معهم.
السبت 2023/06/24
استعاد أنفاسه من جديد

تطور السؤال التقليدي المتداول في الكثير من الأدبيات العربية من صيغة من يحارب من إلى من يتصالح مع من على وقع التطورات السياسية الأخيرة في الأزمة الليبية.

تسببت هذه المسألة في خلط أوراق جهات عدة بصورة لا تمكنها من تحديد الفواصل الدقيقة بين القوى المتصارعة أو المتصالحة، والتي تضاعف من صعوبة توقع الخطوة المقبلة لبعض الفاعلين الرئيسيين، حتى الهامشيون لهم دور غير قليل بفعل تحريضات يقومون بها من هنا وهناك والإيحاء بأنهم جزء من المرحلة الحالية والتالية للانتخابات.

أسهم تشابك الأطراف المحلية في ليبيا مع قوى إقليمية ودولية، والعكس صحيح، في سرعة التحولات البادية على مواقف كل طرف، وحفّز تعدد أنواع اللاعبين وتباين مشاربهم وتوزع عناصر القوة السياسية والعسكرية بين جهات كثيرة على تعدد الولاءات وجعل عددا من القوى لا تميل إلى قصر علاقاتها على جهة واحدة.

في ظل السيولة الواضحة على مكونات الأزمة وعدم استقرارها على سيناريو واحد، كان من الحيطة أن تصبح المصادر في الداخل والخارج مثيرة لدرجة أن قنوات التواصل وصلت إلى حد التناقض، فمن يدعمون رئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة لا يتورعون عن الانفتاح على قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، ولم يمنع دعم الثاني من التفاهم مع الأول.

كما أن من يحاربون الجماعات المتطرفة والإخوان والميليشيات باتوا على مسافة قريبة من قيادات وآمرين عسكريين في صفوف من أصبحوا مهمين في ترجيح كفة طرف على آخر، ففي عصر انتشار الحركات المسلحة صارت العداوة مكلفة.

استعاد الدبيبة قدرا من لياقته مع القاهرة ولم يعد ملفوظا بحجة أن حكومته انتهت ولايتها، إذ فتحت معه قنوات اتصال اقتصادية قابلة لأن تمتد إلى الكثير من الأمور السياسية والأمنية

فقد تحدث تغيرات تؤدي بهم إلى الصفوف الأولى، أو يلعبون دورا في رسم وحسم شكل الخارطة السياسية بسبب ما يملكونه من فائض في القوة المسلحة، ساعدت على حضور عناصر منهم في صدارة المشهد الرسمي في طرابلس، وحصلوا على مشروعية عقب أعمال عدوانية، قادت إلى التصالح معهم سرا وعلنا.

اقترب الدبيبة من حفتر وقيل إن هناك اتجاها لصياغة عناصر مشتركة بينهما يمكن أن تتبلور في أي وقت، وابتعد رئيس البرلمان عقيلة صالح عن حفتر ثم عادا أخيرا، وقد يبتعدان الفترة المقبلة بعد أن أصبحت التحالفات متغيرة.

تراوحت العلاقة بين عقيلة ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري بين الصعود والهبوط، وانتقلت العلاقة من الخصومة والعداوة على أساس أيديولوجي إلى التعاون والتنسيق في ملف الانتخابات مؤخرا.

رفع حفتر الغطاء عن رئيس الحكومة السابق في بنغازي فتحي باشاغا وحدثت جفوة بينهما قادت إلى عزل البرلمان لباشاغا ودافع عقيلة عنه ثم اختفى الرجل وربما يعود متصالحا مع حفتر أو متحالفا مع الدبيبة الذي كان وزيرا لداخليته سابقا.

استعاد الدبيبة قدرا من لياقته مع القاهرة ولم يعد ملفوظا بحجة أن حكومته انتهت ولايتها، إذ فتحت معه قنوات اتصال اقتصادية قابلة لأن تمتد إلى الكثير من الأمور السياسية والأمنية، فهو رقم في المعادلة الليبية، ولا يزال يحظى بدعم من جهات إقليمية ودولية، وتجذرت لعبة الكراسي الموسيقية الشهيرة التي يدور اللاعبون فيها حول دائرة ثم يستقر أحدهم على المقعد.

تحولت اللعبة في ليبيا إلى واقع يصعب تجاهل معالمه، فتبدل المناصب والحلفاء والسرعة التي تتغير بها الخرائط انعكست على المهتمين بالأزمة وخياراتهم المتاحة في توطيد العلاقات مع القوى المؤثرة، فمن يجلسون في السلطة ينتقلون إلى المعارضة، ومن ترتفع حناجرهم رفضا لما يجري يصبحون جزءا من السلطة.

إذا خضنا في بعض تفاصيل الصورة الداخلية نجد الكثير من التقاطعات، والتي لا تعبر عن ارتباك وتذبذب وعمالة وشكوك بقدر ما تعبر عن الحركة البندولية التي يتحرك فيها المشهد الليبي، وساعدت طبيعة الشخصية وصعوبة توقع ردات فعلها وتحولاتها على تنمية هذا المحدد، ما أفضى إلى التنوع الظاهر في التحالفات وسرعة ما يكتنفها من تغيرات.

تتحقق القاعدة المعروفة “لا توجد عداوات دائمة أو صداقات مستمرة” في ليبيا بجلاء، ولذلك اختفت المواقف الثابتة من القاموس السياسي المتداول، ولا أحد يتعجب من انتقال قيادي من مربع إلى مربع مناقض له.

تجاوز تعدد الولاءات وازدواجيتها حدود التفسيرات السياسية الجامدة، ولم يعد من المستغرب أن تذهب قوة، دولة أو جهة محلية، في عنفوانها إلى التحالف مع من نبذتهم أو دخلت في خلافات عميقة معهم، فمن يبدو غير مهم اليوم قد يصبح مهما في الغد.

فرص استمرار لعبة الكراسي الموسيقية تزداد مع زيادة الغموض الحاصل في تسوية الأزمة، والتي كلما اقتربت من حل عقدة وجدت قنابل محفورة داخلها

قدمت الساحة الليبية نموذجا مصغرا لما يدور بين القوى الكبرى من تجاذبات وخلافات، وتخطت فكرة الحصر التام للصراعات والأزمات في مع أو ضد، فقد تقترب دولة من أخرى في قضية وتختلف معها في ثانية ضمن مقتضيات أزمة واحدة، فالقطع بالعداوة يختفي تدريجيا في إدارة الأزمات.

ويمكّن تطبيق هذا المحدد في الأزمة الليبية بسهولة من تفهم عدم إعلان الولايات المتحدة موقفا نهائيا منها، فهي تقدم عناوين عريضة تحتمل تفسيرات عديدة، وتحرص على جعل التفاصيل تحتمل تأويلات تمكنها في اللحظة التي تراها مناسبة تقديم رؤيتها.

يمتد الخط على استقامته في ليبيا إلى روسيا وفرنسا وتركيا ومصر، وكل من له ذراع عسكرية أو سياسية، واضحة أو مستترة في الأزمة الآن، فالتحالفات المعلنة يمكن أن تخفي وراءها تحالفات أشد متانة.

يعد العثور على خارطة نهائية لفكرة التصالح (من مع من) عملية غاية في الصعوبة، فالتغير الطاغي عليها وعلى أطرافها أبعدهما عن استقرار فرض على المهتمين بالدفاع عن مصالحهم الانفتاح على الجميع.

تزداد فرص استمرار لعبة الكراسي الموسيقية مع زيادة الغموض الحاصل في تسوية الأزمة، والتي كلما اقتربت من حل عقدة وجدت قنابل محفورة داخلها، فالموقف من الانتخابات الذي اعتقدت لجنة 6+ 6 أنها تمكنت من التوصل إلى صيغة لإجرائها فاجأها مبعوث الأمم المتحدة عبدالله باتيلي بمجموعة ألغام يحتاج تفكيكها وقتا طويلا.

من تصوروا أن حكومة الدبيبة سترحل مع الاتفاق على تشكيل حكومة مؤقتة لإدارة الانتخابات ظهر عليهم التريث، فالرجل وجد ماء الحياة في تحفظات باتيلي أخيرا، والتي تعيد بعض المصالحات المجمدة معه إلى الضوء في الأيام المقبلة.

8