من مخيمات داعش إلى الرقة، لا أحد يقبل بأم محمود

النساء والأطفال في مخيم الهول يتشربون من الأيديولوجيا المتطرفة، مما يغذي لديهم المزيد من التطرف ما لم يتم ترحيلهم إلى بلدانهم.
الاثنين 2019/09/23
وصمة داعش تلاحقهم

الرقة (سوريا)- سارة الديب- بعد عامين من الهرب مع تنظيم داعش، أرادت أم محمود العودة إلى ديارها. وعندما وصلت أخيرا إلى الرقة مع بناتها وأحفادها، وجدت منزلها محترقا بشكل جزئي ولكن لا يزال بإمكانها العيش فيه. عادت الخياطة البالغة من العمر 53 عاما من مخيم الهول، حيث تم احتجاز 73 ألف شخص، معظمهم من عائلات مقاتلي داعش، منذ أن تمت هزيمة التنظيم في مارس الماضي، لكن سكان الرقة، التي حكمها داعش بوحشية لسنوات والتي عانت من دمار هائل بسبب المعركة التي تسببت في طرد التنظيم، لم يضعوا ثقتهم في العائدين. وبالنسبة لأم محمود، فقد تجنبها جيرانها وأقاربها.

وتقول أم محمود “لا أحد يسأل عنا. الأقارب يخافون منا”. وتعد عودتها في يونيو الماضي جزءا من تجربة أجرتها الإدارة التي يقودها الأكراد المدعومة من الولايات المتحدة والتي تدير شمال شرق سوريا، كمحاولة لتحقيق المصالحة في الرقة بعد الاضطرابات التي مزقت نسيجها الاجتماعي.

وسمح مسؤولو المدينة بعودة حوالي 700 عائلة من مخيم الهول. يضم المخيم حوالي 30 ألف سوري، معظمهم من النساء والأطفال، إلى جانب عشرات الآلاف من العراقيين والمئات من الأجانب. فيما رفضت معظم دول هؤلاء الأجانب إعادتهم. وتقول الإدارة في الرقة إنه من الأفضل إعادة العائلات إلى بيوتها ودولها بدلا من تركها تتخبط في غياهب التطرف. ويتم تنسيق العودة مع شيوخ القبائل العرب، الذين يشهدون على العائدين ويضمنون أمام الحكومة أنهم لن يتسببوا في حدوث أي مشكلة أخرى. وتقدم الآلاف من السوريين في المخيم بطلب العودة.

نظرا لأن الكهرباء لم تتم استعادتها بالكامل، يعتمد السكان على المولدات الكهربائية للحصول على الكهرباء ويشاركونها في ما بينهم، لكنهم رفضوا أن يشركوا أم محمود معهم

ولا تزال نتائج التجربة غير مؤكدة، كما توضح حالة أم محمود. وتروي هي وأفراد عائلتها قصتهم مع التنظيم المتطرف وقد اشترطوا عدم الكشف عن هويتهم الكاملة بسبب وصمة العار التي يواجهونها.

 عودة منبوذة

لقد هربت أم محمود هي وعائلتها من الرقة في صيف عام 2017 عندما أمر داعش بإخلاء حيهم في مواجهة تقدم القوات التي تدعمها الولايات المتحدة والغارات الجوية للتحالف. انتقلوا مع المسلحين المنسحبين من بلدة إلى أخرى خلال الأشهر التالية، حتى المواجهة النهائية للجماعة في قرية باغوز الشرقية. قُتل اثنان من أبنائها وصهرها أثناء القتال أو العمل لصالح داعش. 
خرجت أم محمود من باغوز وأُرسلت إلى الهول مع بناتها الثلاث وأحفادها الثلاثة. تم اعتقال زوجها ووالدها وابنها البالغ من العمر 14 عاما وزوج ابنتها على يد القوات التي يقودها الأكراد. وحُكم على زوج ابنتها بالسجن لمدة عام بسبب انضمامه لداعش، رغم أنه لم يقاتل في صفوفه. 
ودون أقاربها الذكور، عادت أم محمود إلى الرقة. وقد تم تطهير الشوارع من أكوام الحطام، فيما يقوم عمال البلدية بالحفاظ على نظافة المدينة.

وباعت أم محمود ملابسها المستعملة في السوق، كما باعت أساورها الذهبية من أجل بدء عمل تبحث من خلاله عن لقمة العيش. وعلى عكس معظم سكان المدينة، لا تزال هي وبناتها يرتدين الزي الذي فرضه عليهن داعش، والذي لا يغطي وجوههن فحسب بل وأيضا عيونهن وأيديهن. وقالت أم محمود وهي تدافع عن هذا الزي “لقد ولى تنظيم داعش، لكننا لا نزال ننفذ قوانين الله”. وعبرت أم محمود عن اندهاشها بسبب نبذ جيرانها لها.

وتقول أم محمود وهي تشير إلى منازل جيرانها “انظروا إليهم. لديهم كهرباء في منازلهم ونحن لا. إنهم لا يشعرون بنا. نحن نساء نجلس في الظلام وحدنا في حين يستمتعون هم بالكهرباء 24 ساعة في اليوم. هل هذا ما تسمونه حرية؟”. ونظرا لأن الكهرباء لم تتم استعادتها بالكامل، يعتمد السكان على المولدات الكهربائية للحصول على الكهرباء ويشاركونها في ما بينهم، لكنهم رفضوا أن يشركوا أم محمود معهم.

واعترفت أم محمود بأن أبناءها وأزواج بناتها حاربوا أو كانوا أعضاء في تنظيم داعش، لكنها قالت إن أسرتها لم تؤذ الجيران، واتهمتهم بمحاولة كسب ود السلطات الجديدة. وقال أفراد أسرتها أيضا إنهم واجهوا مشكلات مع مسؤولي المدينة، على الرغم من وعود إعادة الإدماج. وعندما طلبت ابنتها سمية زيارة زوجها المسجون، طلبت السلطات إثبات الزواج.

جهود لإعادة إدماج العائدين من داعش
جهود لإعادة إدماج العائدين من داعش

لكن المسؤول المحلي رفض إصداره لها، بزعم أنها إحدى مؤيدات داعش. ذهبت سمية ثلاث مرات، من بينها مرة بعد أن أزالت النقاب عن وجهها لتجنب تسميتها بالداعشية، ولكن دون جدوى. إلا أن هذا يعني أنها لا تستطيع أيضا تسجيل ابنها في المدرسة.

ونفى مسؤول كردي بارز، على غير دراية بهذه القضية، رفض المسؤولين منح العائدين الجدد الوثائق الخاصة بهم، وقال إن السبب وراء هذا الرفض قد يكون إجرائيا. وقال المسؤول إن الهدف وراء كل هذا هو إعادة الدمج. وتقود القوات الديمقراطية السورية التي يقودها الأكراد والسلطات المحلية جهود إعادة الإدماج، بينما يقدم التحالف الذي تدعمه الولايات المتحدة دعما غير مباشر.

 تهديدات أمنية متواصلة

لا تزال العديد من المباني الشاهقة في الرقة تظهر في الأفق على هيئة هياكل عظمية تم قصفها، لكن السكان انتقلوا إليها أو أعادوا بناء الشقق أو فتحوا المتاجر. وتم افتتاح مطاعم جديدة، يطل بعضها على ضفاف النهر الذي يمر عبر المدينة. وارتفعت اللوحات الإعلانية فوق الشوارع المزدحمة، تعلن إحداها عن إطلاق أعمال جديدة لتخطيط حفلات الزفاف ودعوة المطربين الذين تم حظرهم بموجب قوانين الدولة الإسلامية. وتزين خضروات المزارع القريبة الشوارع بألوانها الزاهية. وتمتلئ الحدائق العامة بالأطفال وعائلاتهم.

ويقول المسؤولون إن أكثر من 800 ألف شخص عادوا إلى المدينة وضواحيها، أي ما يقرب من ثمانية أضعاف عدد الذين ظلوا في المدينة عندما تم طرد داعش في أكتوبر 2017. وقال مسؤولون محليون إنهم قاموا بترميم 18 من مجموع 24 محطة ضخ مياه تضررت بسبب القتال. كما تعمل أكثر من 300 مدرسة، من أصل 800، الآن والتي تضم عشرات الآلاف من الطلاب.

وفي ما يخص الجانب الأمني، قام التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بتدريب أكثر من 7500 رجل وامرأة لقوات الأمن الداخلي في الرقة وتجديد 20 جسرا تم تدميرها في القتال. وبيّن مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية أن هذا الإنفاق يذهب إلى المناطق المحررة حديثا لضمان عدم عودة داعش. حيث جمعت واشنطن، التي جمدت العام الماضي خطة التمويل الخاصة بها لتحقيق الاستقرار في شمال شرق سوريا، أكثر من 325 مليون دولار من دول أخرى من أجل إتمام عمليات إعادة البناء والتعمير.
 ومع ذلك، أقر المسؤول بأن “المهمة ليست كاملة”. فقد تراجع مقاتلو داعش إلى المناطق الصحراوية وانتشروا بين السكان، ويشنون الآن حملة ضد التمرد تستهدف المسؤولين المحليين ونقاط التفتيش الأمنية.

سمح مسؤولو الرقة بعودة حوالي 700 عائلة من مخيم الهول. يضم المخيم حوالي 30 ألف سوري، معظمهم من النساء والأطفال، إلى جانب عشرات الآلاف من العراقيين والمئات من الأجانب

ووفقا لمركز روجافا للمعلومات، تم تسجيل ستة هجمات على الأقل في الرقة وحدها في شهر أغسطس، مقارنة بأي منها في الشهر السابق.

كل هذا العنف يثير شكوك سكان الرقة. يقول أسامة، الذي يدير متجرا لبيع كروت شحن الهواتف المحمولة في الرقة، إن السلطات التي يقودها الأكراد متساهلة للغاية مع مؤيدي داعش في المحكمة ويجب ألا تسمح لهم بالعودة. وتابع “من يستطيع أن يضمن ألا يعودوا إلى طرقهم القديمة؟”. وتحت حكم التنظيم، هدد مقاتلو داعش أسامة بقطع لسانه بسبب انتقاداته التي يجهر بها. ويقع متجره في ساحة النعيم، التي اشتهرت بقطع الرؤوس وإطلاق النار وتنفيذ العقوبات الأخرى على يد التنظيم. والآن تم تغيير اسمها إلى ميدان الحرية. وبدوره يحذر الشيخ هويدي الشلش من أن النساء والأطفال في مخيم الهول يتشربون من الأيديولوجيا المتطرفة، مما يغذي لديهم المزيد من التطرف ما لم يتم ترحيلهم إلى بلدانهم. وقال الشلش “إذا لم يكن هناك أمن، فإن عودة أهالي الرقة ستضمن استعادته”.

وامتدح الشلش فوائد التصالح القبلي، حيث إذا قُتل شخص ما، يجتمع شيوخ القبائل لإيجاد حل “نحن مجتمع مسلم قبلي أولا وقبل كل شيء. مهمتنا هي أن نسامح. نحن عائلة”.
 أما بالنسبة لأم محمود، فستتغير الحياة إذا عاد زوجها وأبوها وابنها. وقالت إنهم لم يحملوا أسلحة مطلقا ويجب السماح لهم بالعودة. ولإثبات نيتها الحسنة، قالت أم محمود إن ابنها سينضم إلى القوات الجديدة التي يقودها الأكراد بمجرد عودته. 
وفي الوقت الحالي، لا تعرف أم محمود مكان وجودهم ولا تمر ليلة دون التفكير فيهم. وختمت قائلة “أود أن أعرف أخبارهم فقط، سواء كانوا بخير أو إذا ماتوا. ننتظر بصبر حتى يحل الله الأمر من عنده ونعود إلى حياتنا الطبيعية”.

6