من أوصل بغداد لهذه الحال؟

منذ عقد ونصف لم أرها بتمعن، واضطررت أن أضع كل تصوراتي بالأبيض والأسود عنها جانبا، وأراها بإمعان، تجولت في كل حاراتها وأسواقها وأزقتها وشوارعها المتخمة بالمشاهد التي لم آلفها من قبل، حدقت بوجوه الناس وجالستهم لأسمع منهم وأرى تقاسيم وجوههم المتغضنة بحكايات لا تنتهي، كانوا صحافيين وأدباء وكتّابا ومن عامة الناس ممن فارقتهم سنين.
كيف ينعكس حزن المدينة وضيقها وصبرها عليهم وكأنهم يعيشون وجعها ويستمدون آلامها، لا تعرف أي وجع ذلك الذي يتسرب إليك من حيث لا تدري وجع الناس وحزنهم أم أنين بغداد وضيقها. لا يمكنك إلا أن تتجهم وتحزن على الناس وعليها.
هو حزن على مدينة توحشت بالغربة والتوجس والظروف التي أفقدتها نداوتها وتبغددها، فقدت عطرها المثير والمميز من ناسها الطيبين وخزائن فرحها وهجران، بيوت الأحبة والأصدقاء جفت دموعها لفرط بكاءها وغياب بُناتها من مهندسين وعمال مهرة وعلماء وأساتذة جامعات هم حبالها القوية، الذين يحملون تأرجحها ودعة الحياة فيها وتشعر من حيث لا تدري بفراق عيون ألمها، لأن الجسور فيها صارت موحشة وما عادت مثابات وصل بين الرصافة والجسر، فهواء علي بن الجهم صار سموما وما عاد يدري من أين تأتي ولا تأتي نسائم دجلة.
والأنكى تيبس قلوب العامة التي كانت ندية تفوح مودة ورحمة، الناس تحتاج لمن يكفكف دمعها ويبدد حزنها ويقول لبغداد نحن أبناؤك المحبون لجامعاتها وشوارعها ومقاهي رشيدها لتتعرف على “كودها” الجديد و“باسويردها” الذي تغير وصار بأرقام لا تقرأ بسهولة.
هل صحت بغداد من كبوتها واستفاق عزمها لتحصد ثمار صبرها وتصبرها؟ وهي تعلق لافتات المرشحين الجدد لانتخابات مايو المقبل، وهي تعاين وجوها كالحة خبرتها وجربتها وأخرى جديدة تسعى إلى الإصلاح والتغيير؟
قال لي سائق التاكسي وهو يدلف شارع السعدون قافلا من شارع الرشيد وينتظر في الصف الطويل ليجتاز نقطة التفتيش: عمي متى نخلص من هذه البلاوي؟
لم أجبه خشية أن يسمع ما لا يرضيه، لم ينتظر إجابتي وأردف لم يبق لنا سوى الله ونحن غير راضين على كل تلك الوجوه التي تراها، لم أعلق ومضيت في طريقي تحت نصب التحرير أحاور وجوه جواد سليم في نصب الحرية لأسأله لماذا وصلنا إلى هذه النتيجة ونحن أول البلدان استقلالا وكتابة لدستور الأمم المتحدة، وأول من أنشأ خطوطا جوية، وأول من نصّب وزيرة في عالمنا العربي، وأول من صنع العجلة والكتابة وأول من ذهب من أرضه نبي ليبني بيت الله وهو سيدنا إبراهيم الخليل، وأول من سقطت عاصمته بعشرين يوما.
لم يبق في ذهني غير صورة جندي جواد سليم وهو يكسر زنزانة السجن، رحت أتأمله حتى اختفى بين الزحام.