منهج مصر في التدخل السياسي

جاءتني ردود فعل متفاوتة حول مقال “منهج مصر في عدم التدخل العسكري” المنشور في “العرب” عدد الاثنين الماضي، بعضها أيد التفسير الذي استندت إليه في الممانعة المصرية للتدخل العسكري، والبعض الآخر رأى أن القوى الإقليمية الكبيرة سوف تخسر كثيرا إذا استمرت على منهجها في العزوف تماما عن التدخل.
كان لزاما التوقف عند الوجه الآخر للصورة في مقال يتناول المنهج السياسي المصري، فإذا كان الأول مرفوضا، فلا بد أن ينطوي الثاني على تقدم واسع كي يعوض عدم اللجوء إلى المنهج العسكري الذي اعتمدت في تفسيره على محددات مصرية تتعلق بنظرة القيادة الحالية للقضية، وكان عنصر الرأي فيه هامشيا، لكن حسابات هذا الخيار، الإيجابية والسلبية، جاءت جلية في المقال السابق.
استمعت إلى رؤية مسؤولين كثيرين في الفترة الماضية أكدوا على تبني منهج عدم التدخل العسكري إلا في الضرورة القصوى التي تحتمها دواعي الأمن القومي العاجلة، وهي عملية مطاطة، فما يحدث في السودان وما يجري في ليبيا منذ سنوات وما قامت به إثيوبيا من تشييد لسد النهضة يعد مهددا للمصالح المصرية من زوايا مختلفة.
◙ ما يجري على الساحة لا يخلو من سباق قوى محموم بعضه ظهر على السطح والبعض لا زال غاطسا ولم تقدم مصر رؤية تشير إلى حرصها على المبارزة ولو من خلال منهجها السياسي
يمكن تفهم عدم التدخل العسكري عندما تكون هناك بدائل وأدوات سياسية تحقق النتيجة المرجوة بتكلفة أقل، وهو ما بات محل شكوك، فالدبلوماسية المصرية حاضرة في كل الأزمات الإقليمية تقريبا، وتطلق مصر مبادرات وتمثل في غالبية الاجتماعات التي تتعلق بأزمات في المنطقة، لكن القدرة على التغيير بما يتناسب مع الرؤية المصرية وما تنطوي عليه للحفاظ على المصالح الوطنية والقومية هذه مسألة أخرى.
لم تغب القاهرة عن الاجتماعات الرئيسية التي عقدت بشأن الأزمة الليبية في أماكن متفرقة، لكنها لم تتبنّ خطة محددة وعملت على تنفيذها تفصيلا، أو بمعنى أدق تبنتها وأخفقت في تحقيقها، لأن الأزمة معقدة ومتشعبة ومفاتيحها في أيدي أطراف عدة.
تأتي المشكلة من أن المنهج السياسي لا يحسم وحده الكثير من الأزمات، خاصة عندما تأخذ بعدا صراعيا عسكريا، تتداخل فيه المكونات الميليشياوية، ومن الظلم اتهام الدبلوماسية بالكسل والتقاعس والفشل لعجز في قدرات القائمين عليها، فهي تتحرك وفقا لتقاليد راسخة، محكومة برؤية عامة رسمت لها سلفا حدود الحركة.
وقد تكون مقيدة بسقف وضوابط لا تجلعها تشتبك مع قوى أخرى منافسة علنا، اعتمادا على ما يسمى بنظرية “الصبر الإستراتيجي” كمصطلح صاعد في بعض التفاعلات الإقليمية، غير أن نتائجه غير مضمونة وتعطي الخصوم مجالا للتمادي في هجومهم.
لذلك لن تتمكن وحدها من الدفاع عن المصالح العليا للدولة المصرية، وأقصى ما يمكن أن يقوم به المنهج السياسي الراهن منع الآخرين من تحقيق أهدافهم ووضع عصي متباينة بين عجلاتهم كي تعوقها عن قطف ثمار معينة، وهي طريقة تعمل بها دول كثيرة عندما تخفق توجهاتها فتسعى أيضا لتعطيل مساعي القوى المنافسة.
تصلح هذه المقاربة التي تستخدمها قوى محلية وإقليمية ودولية متعددة لفهم المطبات التي تواجهها أزمات في المنطقة، مثل ليبيا، والتي أدت إلى إطالة أمدها، على الرغم من التوقعات المتفائلة بإمكانية تسويتها سريعا، وإذا كانت هذه البنية موجودة في الشق السياسي لدى البعض فمن المؤكد أنها حاضرة في الشق العسكري.
◙ ما يجري من تفاعلات سياسية مع الأزمات الإقليمية من قبل القاهرة بعيد عما هو مطلوب منها كدولة مركزية، فقد تجبرها بعض التطورات على القبول بما يقدمه آخرون على حسابها
يواجه منهج مصر في التدخل السياسي عقبات لا تقل صلابة عن نظيرتها في الشق العسكري، مع ذلك لا تتوقف دبلوماسيتها عن الحركة الدؤوبة في مناطق كثيرة ومساحات كبيرة، ولأن المقياس يتوقف على المردودات الملموسة فما تحقق من إنجازات يبدو مقنعا على المدى القصير، إلا أنه لا يكفي بالمرة على المدى البعيد مع دولة في حجم مصر تريد أن يكون لها حضور إقليمي مؤثر.
تقود النظرة العميقة إلى التطورات في أزمات محتدمة، مثل سوريا وليبيا واليمن ولبنان وصولا إلى السودان، إلى عدم وجود دور فاعل – قائد لمصر يتناسب مع تاريخها وتطلعاتها المختزلة، بل وجغرافيتها السياسية التي منحتها أو أتاحت لها قدرات تجعل من عملية تجاوزها من قبل أي طرف عصية أو لا تمر بسهولة.
يظل المنهج السياسي مسكونا بحذر قد يعبر عن ارتباك في تحديد البوصلة النهائية، ما يفسر عدم مواصلة العزف على الحلقات الضيقة، فالحضور لا يعني التأثير، والمشاركة لا تفضي إلى القيادة، والجرأة والاقتحام ووضوح الرؤية من الوسائل اللازمة للحصول على نتائج جيدة تخدم المصالح المصرية مباشرة، بينما البحث عن تقاطعات سلمية مع جهات إقليمية أو دولية وعدم المبادرة والميل إلى التفرد في الطرح من أبرز العوامل التي تحجّم فكرة الدور والانطلاق به.
تحتاج القاهرة إلى خارطة طريق في سياستها الخارجية، فالمنهج الذي تدار به يرضخ للمستجدات والأمر الواقع وحدود المساحة التي يتركها آخرون، وهي مقومات لا تفيد فكرة الدور الإقليمي لأي قوة، فما بالنا بمصر التي لن تستطيع الدفاع عن مصالحها وفي أجندتها كوابح عسكرية صارمة وبطء في الحركة السياسية.
◙ مصر تطلق مبادرات وتمثل في غالبية الاجتماعات التي تتعلق بأزمات في المنطقة، لكن القدرة على التغيير بما يتناسب مع الرؤية المصرية وما تنطوي عليه للحفاظ على المصالح الوطنية والقومية هذه مسألة أخرى
أعتقد أن منهج عدم التدخل العسكري لن يستمر طويلا، لأنه ضد الطبيعة المصرية، والتي ينطلق دفاعها عن الأمن القومي من الخارج، وإذا كان هذا المنهج له مبرراته لدى قيادتها، فلن يصمد كثيرا في ظل ما يحدث من تآكل شديد في الأطراف العربية، والذي حتما سوف يقود إلى إلحاق الأذى بالقلب كهدف محوري لبعض القوى طالما أن القلب (مصر) لن ينبض بسرعة تتوازى مع التحديات الجسيمة في الأطراف.
تفرض التطورات المتلاحقة في المنطقة تكوين هجين بين المنهجين العسكري والسياسي، وتسكين الأول (مؤقتا) يحتم على الثاني أن يصبح أكثر نشاطا، لأن تسكينهما معا يؤدي إلى زيادة العقبات في طريق الدفاع عن المصالح المصرية مستقبلا.
ما يجري من تفاعلات سياسية مع الأزمات الإقليمية من قبل القاهرة بعيد عما هو مطلوب منها كدولة مركزية، فقد تجبرها بعض التطورات على القبول بما يقدمه آخرون على حسابها، كما هو حاصل في الأزمة السودانية التي قد تصطدم ارتداداتها القاتمة بالقلب المصري، من ناحيتي مياه النيل والحدود وأمن البحر الأحمر.
ارتكنت القاهرة إلى نظرة ضيقة لدى البعض من السودانيين شككت في توجهاتها عامة وامتنعت عن التحرك مبكرا، وتركت الأزمة تتقاذفها جهات عربية وأفريقية، ولا تزال تفكر في آلية سياسية للتعامل معها، وما لم تبادر بخلق دور مناسب لها عليها ألا تنتظر أن يقوم أحد باستدعائها ومساعدتها.
ما يجري على الساحة لا يخلو من سباق قوى محموم، بعضه ظهر على السطح، والبعض الآخر لا يزال، ولم تقدم مصر رؤية تشير إلى حرصها على المبارزة ولو من خلال منهجها السياسي، لأن الاستناد إلى العجز الاقتصادي لن يكفي لتبرير التردد في التعاطي مع الأزمات الساخنة التي يقع معظمها على مرمى بصر منها.