منهجية مصرية متأرجحة في قضايا حيوية

تبدي الدولة المصرية حماسا حيال عدد من القضايا الحيوية، ربما يفتر أو يتراجع مع تجاوز أسبابه ودوافعه ومبرراته، وهو ما ظهر في حوادث النقل العام على الطرق السريعة والسكك الحديدية وموقف الأزهر من تجديد الخطاب الديني وبعض ملفات السياسة الخارجية المؤثرة، فلماذا تغلق هذه القضايا قبل تسويتها تماما طالما امتلكت الدولة شجاعة فتحها من البداية؟
يعتقد البعض أن التذبذب والمراوحة بين الاهتمام والفتور يعبران عن خلل في طريقة التعامل مع الأزمات وسبل علاجها، أو أن الدولة تحرص على امتصاص غضب الرأي العام أكثر من الإصلاح، قد يكون هذا الاستنتاج صائبا في قضايا يؤدي الاقتراب من حلها جذريا لتفجير مشاكل أشد صعوبة بما يتطلب توفير المزيد من الوقت والجهد.
اختار النظام المصري طريقا صعبا في التعامل مع بعض القضايا، فبدلا من العمل على إصلاحها عمد إلى تأسيس بدائل موازية لبعضها وأوجد ازدواجية ولغطا غير مقصود، وظهرت تجليات هذا الأمر في بناء عاصمة إدارية جديدة بدلا من القاهرة التي يستغرق إصلاحها إداريا وقتا طويلا، وقد لا يتم تحقيق الهدف المطلوب.
يعبر هذا الخيار عن رغبة جادة في تجاوز العقبات، غير أنه يخلق مشكلات جديدة، لأن البيئة القديمة بكل ما بها من عيوب سوف تظل على حالها، ويطارد شبحها كل من يريدون الإصلاح من خلال آليات موازية.
تعد تجربة هذه النوعية من الحلول مناسبة لتفكير النظام المصري الحالي الذي يريد التأسيس لجمهورية جديدة في عدد كبير من المجالات، ويرى أن هذا المسار يمثل خيارا عمليا، فعملية الإصلاح التدريجي لن تفضي إلى الغرض المرجو منها تماما.
لن تصمد الأساليب المتأرجحة في الحصول على نتائج إيجابية مع القضايا الحيوية، فأمام العواصف التي تحيط بالدولة يتطلب الأمر منهجية عميقة في التعامل مع الأزمات الداخلية والخارجية، والتوصل إلى حلول لا تجعل هناك فرصة لعودتها مرة ثانية
يصلح التوجه التدريجي أو بالقطارة في بعض الملفات، فتكلفة المؤسسات الموازية يمكن تطبيقها مع قطاعات وتقود لنتائج مفيدة لكن لن تكون كذلك مع أخرى، والقياس على تجربة العاصمة الإدارية عملية صعبة، فغرضها أكبر من التغلب على مصاعب القاهرة القديمة، حيث يحمل أهدافا أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية متعددة.
لا يستطيع أي نظام مهما ارتفعت طموحاته وعلت أحلامه بناء دولة عصرية من جميع الوجوه، فهذه عملية تحتاج لوقت طويل وتنطوي على تكاليف مادية باهظة، والشروع في تصويب الأخطاء المتراكمة في كل القطاعات قد توقفه البيروقراطية.
يصعب القول إن النظام المصري الراهن يسير بطريقة عشوائية أو بلا منهجية، حيث تخطى مطبات عدة الفترة الماضية وتغلب على تحديات جمة كان من المستحيل التيقن من عبورها، وتأتي المشكلة من تضخم الحماس في المقاربات المقدمة التي تصل إلى الذروة ثم تختفي، وبعد مرور وقت تعود ثانية وتتجدد المشكلة وتداعياتها.
لم يتوقف تصادم القطارات على الرغم من الاهتمام الذي تبديه الدولة لإيجاد حلول خلاقة لها، والذي انعكس في حجم الميزانيات الكبيرة المرصودة لإصلاح قطاع السكك الحديدية وتمهيد الطرق وبناء الجسور وإدخال وسائل مواصلات بديلة.
ولا يزال الأزهر يتردد أو يتقاعس في ملف تجديد الخطاب الديني، وبدا كأنه يضرب عرض الحائط بتوجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسي، ويبقى هذا الملف موضوعا على الرف لحين تتفجر مشكلة فيطفو على السطح وتتم استعادة مفردات اللوم السابقة.
تظهر ملامح المنهجية بصورة أكثر وضوحا في القضايا التي تمس الأمن القومي، فمنطقة سيناء يتم التعامل معها وفق جدول زمني يتضمن إعادة تأهيلها بما يقلل من المخاطر ويحد من مصادر القلق القادم منها بعد أن تسبب تجاهلها سنوات طويلة في انفجار بركان الإرهابيين في وجه الدولة والمجتمع.
يؤكد علاج أزمة سيناء من جذورها أن هناك منهجية بعيدة المدى تحكم التعامل معها، أدت إلى تغيير كثير من الانطباعات السائدة بشأن أنها تمثل بؤرة للإرهاب في الدولة، وجرى حل جزء معتبر من الأزمات التي أزعجت الأمن في هذه المنطقة الحيوية.
لا يستطيع أي نظام مهما ارتفعت طموحاته وعلت أحلامه بناء دولة عصرية من جميع الوجوه، فهذه عملية تحتاج لوقت طويل وتنطوي على تكاليف مادية باهظة، والشروع في تصويب الأخطاء المتراكمة في كل القطاعات قد توقفه البيروقراطية
يستطيع المراقب وضع يديه على نماذج متباينة من أوجه التأرجح الداخلي في قضايا يحتاج حلها إلى تغيير هيكلي فيها يصل إلى طريقة التفكير والتغيير بدءا من الأشخاص إلى المؤسسات، إذ أدى التكلس الممتد الذي ارتاحت له بعض الأجهزة العتيدة إلى جمود ضاعف من صعوبة نجاح أي عملية إصلاح عميقة يمكن أن تقوم بها الدولة.
من يتفهمون دواعي وتفسيرات الترهل الداخلي لن يقبلوه على صعيد القضايا الخارجية، فالمنهج المرتبك في الأولى لا يجب أن يكون كذلك في الثانية حيث يتطلب وفرة عالية في مخزون الديناميكية للتعامل مع الأزمات المتوقعة والمفاجئة.
نجحت التوجهات المصرية في تهدئة بعض الأزمات الخارجية الفترة الماضية، لكن لم تنجح في وضع منهجية تقودها إلى معالجة تامة في القضايا الساخنة، فلا يزال سد النهضة الإثيوبي معلقا وملف ليبيا مستمرا وتحركات تركيا مريبة، وكلها من أهم المنغصات الراهنة، فالهدوء على بعض الجبهات لا يعني التوصل إلى تسوية نهائية.
تنعكس المنهجية التي يتم تبنيها خارجيا في حصر أهدافها أحيانا في إطفاء الحرائق المشتعلة ومحاولة إبعاد الأخطار الداهمة وإدارة الأزمات دون خسائر، وفي كل الحالات لا يعبر ذلك عن استراتيجية، فمن أدبيات الرؤية البعيدة لا تنتظر حتى تعرف أين يضع خصمك قدمه، فعلى الدولة المصرية أن تقوم بوضع قدميها أولا كي يضطر خصومها ومنافسوها لملاحقتها وليس العكس، ما يكسبها تفوقا في القضايا الحيوية.
مع كل التصورات التي قدمت بشأن سد النهضة وليبيا وتركيا وبدت في أوقات كثيرة الدولة حاسمة، يصعب توقع أن هناك حلا مؤكدا في إحداها حتى الآن، فالصمت الذي يخيم على أداء الدولة ودواليبها المختلفة ليس كافيا لتخطي العقبات، لكنه دليل على أن هناك استراحة تعيد فيها الأطراف المعنية ترتيب أوراقها، وأن ثمة جولات جديدة قد تبدأ تفاعلاتها قريبا، لها مردودات إيجابية أو سلبية.
تحتاج المنهجية في القضايا الخارجية وضع رؤى لا تقوم على المسكنات التي يمكن أن تستخدم مع الملفات الداخلية وتحرز تقدما فيها، فقد أصبحت الصورة واضحة إلى حد بعيد، بما يتطلب استدارة قوية في الأداء العام، فإذا لم تستطع تحريك رقع الشطرنج فعلى الأقل عليك المشاركة في تحريكها قبل أن تصبح أنت رقعة يتلاعب بها الآخرون، ما يتنافى مع الخبرة المصرية التي تؤكد عدم إهمال المحيط الخارجي.
لن تصمد الأساليب المتأرجحة في الحصول على نتائج إيجابية مع القضايا الحيوية، فأمام العواصف التي تحيط بالدولة يتطلب الأمر منهجية عميقة في التعامل مع الأزمات الداخلية والخارجية، والتوصل إلى حلول لا تجعل هناك فرصة لعودتها مرة ثانية.