منطقة شرق المتوسط: صورة مصغرة للصراعات الإقليمية والعالمية

واشنطن - جعلت اكتشافات الغاز الأخيرة منطقة شرق البحر المتوسط نقطة انطلاق تصور التناغم بين الجغرافيا السياسية، والصراع من أجل الهيمنة الإقليمية، ومعارك السيطرة على الموارد، والتنافس على القوة الدينية الناعمة، والتدخل الصارخ في سياسات الآخرين.
وما يجري اليوم في هذه المنطقة من صراعات، تتصدر صورته الاستفزازات التركية، فيما يتخذ الصراع مع روسيا وضعا أكثر هدوءا، يقدم وفق توصيف المحلل السياسي الأميركي جيمس دورسي صورة مصغرة للصراعات الإقليمية والعالمية.
ويشرح دورسي في تحليل له خلفيات هذه الصورة وتفاصيلها لافتا إلى أن امتداد نطاق التعقيد والمصالح المتضاربة في هذه المنطقة ألغى الحدود الفاصلة بين النزاعات المتعددة مثل الحروب في سوريا وليبيا، كما يحدد توجهات الصراع الأوروبي الروسي، والموقف الأوروبي من تركيا.
إذا كان الصراع للسيطرة على موارد شرق البحر المتوسط بالنسبة لبعض الدول مثل اليونان وقبرص ولبنان يتعلق بالدرجة الأولى بالاقتصاد، فإن الأمر بالنسبة للآخرين، بما في ذلك مصر وإسرائيل، يتعلق بفرض القوة والنفوذ.
وهذا ينطبق كذلك على روسيا وتركيا، حتى لو كانت مصالحهما على خلفية المواقف المتباينة في ساحات القتال في ليبيا وسوريا قد تختلف بدلا من أن تتقارب.
الاستفزازات التركية
تعد السياسة التركية أبرز مثال على التوتر الصاعد والذي ينذر بتصعيد، قد يتحول إلى مواجهة عسكرية في منطقة شرق المتوسط، حيث تثير أنقرة عاصفة من الانتقادات بسبب سياستها التوسعية في شرق المتوسط من جهة، كما تدخلاتها في ليبيا وما وقعته من اتفاقيات مع حكومة الوفاق بغاية فرض حضورها الدائم في المتوسط من جهة أخرى، في وقت يشتد فيه ضغط الدول الإقليمية عليها.
وأرسلت تركيا في الأشهر الأخيرة سفن تنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، رغم تحذيرات واشنطن والاتحاد الأوروبي الذي تنتمي له الجزيرة.
وخلقت اتفاقية بحرية بين تركيا وحكومة الوفاق منطقة اقتصادية حصرية في منطقة شرق البحر المتوسط تأتي في صالح تمدد النفوذ التركي. وستمنع المنطقة الاقتصادية، أو المنطقة الاقتصادية الخالصة، مد خط أنابيب مخطط لربط الاتحاد الأوروبي بإمدادات الغاز الإسرائيلية والقبرصية.
في مقابل هذا التحرك، يبدو أن بناء العلاقات بين المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي، والرئيس السوري بشار الأسد يربط الحرب في سوريا بمنطقة شرق المتوسط والقتال في ليبيا، في الوقت الذي تناور فيه تركيا وروسيا لتجنب اشتباك عسكري مباشر في إدلب، آخر معقل لمتمردي الجيش السوري الحر المدعوم من تركيا ضد قوات الحكومة السورية المدعومة من روسيا.
لا يقتصر الأمر على السياسة التركية التوسعية وما تثيره من جدل وغضب إقليميين ودوليين، حيث تأتي ذات المنطقة كأحدث مكان تتصارع فيه روسيا والغرب من أجل فرض النفوذ. ويشير جيمس دورسي في هذا السياق إلى أن الأوروبيين اعتمدوا سياسة مزدوجة، فرضتها طبيعة المصلحة.
بين روسيا وأوروبا
بينما وقف الأوروبيون إلى جانب قبرص، وتوعدوا تركيا بسبب استفزازاتها في المتوسط، دفع اعتماد الاتحاد الأوروبي على واردات الغاز الدول الأوروبية إلى كبح جماح دفاعها عن القيم الغربية ضد سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي تشمل الاستيلاء على الأراضي في القوقاز وأوكرانيا، وتهديد دول آسيا الوسطى، ودعم اليمين المتطرف الغربي، والنازيين الجدد، والقوات المعادية للهجرة والتي تهدف إلى إضعاف الديمقراطية الليبرالية وتعزيز الجماعات الأكثر تعاطفا مع رؤية الرئيس الروسي للعالم.
ويقول ديمتري ترينين، مدير مركز كارنيغي في موسكو، “الشيء السيء حيال الأمر هو أن المواجهة بين موسكو وواشنطن ستستمر. أما الأمر السار فهو أنه ستكون هناك بعض الحواجز التي بنيت حول هذه الصراعات من خلال صعود منطقة شرق البحر المتوسط كمنطقة تتنافس فيها روسيا مرة أخرى مع الغرب”.
ويؤكد ترينين أن منطقة شرق المتوسط بدلا من أوكرانيا، أو شبه جزيرة القرم، أو دول البلطيق، أو القطب الشمالي أو جنوب شرق أوروبا، هي الأكثر توترا الآن.
ويحذر الباحث والمعلق حسين إيبش من أن “جميع العناصر التي أرغمت الأطراف على التنافس على غاز منطقة شرق المتوسط، من أجل تطوير تحالفات محلية تنسجم مع منافسات استراتيجية ودبلوماسية وسياسية أخرى، من المحتمل أن تستمر على الأرجح”.
وألقى إيبش بلوم التوتر في منطقة شرق المتوسط على “التوجه المؤيد بقوة للإسلاميين” لتركيا باعتباره “هيمنة اقتصادية وسياسية إقليمية ناشئة” بدلا من فرض هيمنة محتملة من أطراف متعددة.
مع ذلك، يخلص استنتاجه إلى أنه في منطقة شرق المتوسط “ستستمر النزاعات الناشئة حول قضايا صغيرة في اكتساب زخم أكبر”.