منتدى أصيلة يفكك التحديات التي تواجه النخب العربية وأدوارها في بلاد المهجر

حضور النخب العربية في المهجر قضية شائكة ومعقدة، يجب تفكيكها ومقاربتها من أبعاد وزوايا مختلفة وهو ما حرص عليه القائمون على الدورة الخامسة والأربعين لموسم أصيلة الدولي، مستعينين في ذلك بآراء خبراء وصحافيين ودبلوماسيين من أصحاب التجربة.
الرباط – يشكل العرب أحد المكونات الفاعلة والمؤثرة في النسيج الاجتماعي في العديد من بلدان أوروبا الغربية وأميركا الشمالية والجنوبية، وقد برز هذا الحضور اللافت في المسارات الانتخابية وفي نمط التمثيل السياسي والإدارة المحلية للسكان، وإن كان هذا الوجود يطرح من وجه آخر إشكالات كبرى تتعلق بالاندماج وقضايا الأمن، والتنوع الثقافي، ومشاكل اللجوء والهجرة غير الشرعية.
وكان موضوع الحضور العربي في الدول الغربية حاضرا بقوة في ندوتين على مدى يومي الخميس والجمعة في إطار الدورة الثامنة والثلاثين لجامعة المعتمد بن عباد المفتوحة المقامة في إطار الدورة الخامسة والأربعين لموسم أصيلة الثقافي الدولي من 13 إلى 31 أكتوبر الجاري، حيث قارب المشاركون الإشكالات المختلفة المتعلقة بالعرب في بلدان المهجر، وتجربة الجاليات العربية في الدول التي احتضنت أجيالا متلاحقة على مدى عقود.
وأكد الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، محمد بنعيسى، في مداخلته بالجلسة الافتتاحية بعنوان، “تجربة الجاليات العربية في المهجر: الإيجابيات والنقائص”، أنه خلال العشرين سنة الأخيرة، قوي التنقل في العالم بطريقة لم يعرفها التاريخ من قبل، لاسيما مع شيوع مفاهيم الحريات وحقوق الانسان وكذلك توفر الوسائل التكنولوجية وانخفاض رحلات السفر.
تحديات الهجرات العربية
لقد فرضت حركية العولمة تحرير التنقل البشري وتكثيف الهجرة الخارجية، انطلاقا من الموجات الأولى من الهجرات التي أدت إلى دمج وتوطين مجموعات كاملة من العرب والموجات الجديدة المتولدة عن الأزمات السياسية والأمنية الحادة التي عرفتها بعض الدول العربية في السنوات الأخيرة.
وأكد محمد الهادي الدايري، وزير خارجية ليبي سابق، أن التحويلات والتدفقات المالية للمهاجر نحو بلده الأصلي تعتبر من الايجابيات، لكن هناك تحديات تواجه المهاجر العربي في الخارج منها العنصرية والتهميش وربط العرب بالإرهاب على الصعيدين الحكومي والمجتمعي، وهناك زيادة في ممارسة الأساليب التعسفية ضد المواطن العربي في أميركا في أوقات وظروف معينة، إلى جانب تمييز عرقي بفرنسا وبلجيكا من طرف اليمين المتطرف المعروفة بمواقفه المعادية للمهاجرين، وهنا نتقول إن التهميش الاقتصادي والاجتماعي يساهم باقتراف أفعال إجرامية في بعض الأحيان أو تؤدي إلى تطرف سياسي وديني تؤدي إلى صدامات كالتي حدثت في باريس.
وعددت كاتيا غصن، الأستاذة بجامعة باريس الثامنة، التحديات التي تواجهها النخب العربية المهاجرة، في وسمها بكلمة جامعة هي “العربية” وإن كانت الثقافات العربية غير متجانسة ومتمايزة من بلد لآخر، بالإضافة إلى هيمنة التوجهات السياسية والثقافية للبلد المضيف على ثقافة المغترب، وانحصار هامش التعبير عن الانتماء الثقافي بسبب بعض الأحداث المسجلة خلال السنوات الأخيرة، إلى جانب أزمة الهوية التي يشعر بها بعض المثقفين تجاه بلدهم الأم.
ولفت الصحافي المقيم بلندن، محمد قواص، إلى أن من المعهود وجود شخصيات من أصول مغاربية وخصوصا المغرب داخل حكومات فرنسا وهولاندا، كنتاج لثقافة اندماجية داخل الدول الاوروبية، مؤكدا على أن هؤلاء المسؤولين داخل الحكومات الأوروبية لا يمثلون المغرب بل يمثلون الحكومة الفرنسية والأحزاب الفرنسية ويدافعون عن مصالح بلد الاحتضان دون أن ننفي عنهم احتفاظهم بعلاقة وجدانية مع بلدهم الاصلي.
فيما يرى الكاتب الصحافي عبدالوهاب بدرخان، أن الدول المضيفة التي تريد الآن التخلص من المهاجرين تلجأ إلى التشريعات للحد من هذه الظاهرة، وهناك اقتراحات بخصوص كيف يمكن التخلص من أكبر قدر ممكن من المهاجرين مثل إعطاء إعانات للدول المصدرة للمهاجرين لكي تطور نفسها بتنمية حقيقية لامتصاص البطالة وإبقاء الناس داخل حدودها.
ويضيف بدرخان “هذا اقتراح سمعت عنه أكثر من عشرين سنة ولم يفلح فلا المساعدات للدول المصدرة للهجرة نجحت ولا محاولة إعطاء مبالغ مالية للمهاجر نفسه لكي يعود لبلده نجحت، وجزء كبير من تلك المساعدات تذهب في قنوات الفساد”.
وذهب أحمد المديني الروائي والناقد المغربي المقيم بفرنسا، بالنقاش إلى الحديث عما أسماه بهجرة مضادة تجد النخب العربية نفسها مجبرة عليها اليوم بعد الأحداث الاجتماعية والمعضلات الاقتصادية والتحولات الجيلية والإيديولوجية التي تعرفها فرنسا في السنوات الأخيرة، والتي اهتزت معها بقوةٍ مبادئُ المساواة وقيمُ التسامح، خاصة بعد تنامي المد اليميني المتطرف في أغلب الدول الأوربية.
والشيء الذي دفع النخب العربية، والجاليات العربية بشكل عام، إلى خوض تجربة الهجرة المضادة، حسب المديني، هو الإحساس بالعزلة والإقصاء، نظرات في الشارع، أشياء من هذا القبيل تُرجع الشخص إلى أصوله التي لم يعرفها أو ظنّ أنها باتت وراءه»، بغض النظر عن إيمانه إيديولوجية بقيم الجمهورية والتشبع بشعارها الثلاثي (حرية، مساواة، أخوة).
وباستحضار التغيرات الجيوسياسية في العالم العربي، وخاصة بعد غزو العراق، يقول د. هيثم الزبيدي، رئيس مجلس الإدارة لمؤسسة العرب – لندن ورئيس التحرير، إنها أرخت بظلالها على وضع المهاجرين العرب بشكل عام، وضمنهم النخب، خاصة بعد الأحداث الإرهابية التي شهدتها عدد من الدول الأوربية، والتي أثرت على صورة العرب وأنعشت موجة الإسلاموفوبيا، مشيرا إلى أن الغرب غيب دور النخب العربية في البحث عن جذور الظاهرة ملتجئا في المقابل إلى رجال الدين بدل النخب المنفتحة والعلمانية والموضوعية التي وجدت نفسها، إما عاجزة عن اختراق المنظومة السياسية والبحثية والإعلامية الغربية، أو أمام إنشاء منابرها البحثية الخاصة من مراكز مستقلة أو مؤسسات إعلامية، والتي كانت في معظمها متعثرة.
وركزت كاتيا غصن، الأستاذة بجامعة باريس الثامنة على وضع النخب العربية الثقافية والفكرية العربية داخل المجتمع الفرنسي والتي تساهم بشكل كبير وواع في الإنتاج المعرفي عن بلدان المنشأ، أكثر من غيرها في الأوساط السياسية والاقتصادية، مبرزة أن شريحة من المثقفين لم تفك ارتباطها ببلدهم الأم، الذي لا يزال حاضرا في إنتاجها الفكري والأدبي وأعمالها الأكاديمية.
مهمة النخب العربية في المهجر
وإذا كان المهاجر العربي يتقلب بين هوية خاصة وأخرى مكتسبة، ارتباطا بمدى نجاح النخب العربية المقيمة في المهجر في الدفاع عن القضايا العربية الأساسية من خلال مشاركتها الفاعلة في الحياة العامة في المجتمعات الغربية، حيث اعتبر الصحافي محمد قواص، أن الناس تهاجر لأسباب معروفة إما طلبا للعلم أو بحثا عن مصادر أخرى للرزق أو بحثا عن الحرية وهو عرض دائم وسيستمر لأن الأسباب لازالت هي نفسها.
وأضاف قواص “في سنوات الستينات والسبعينات لم تكن هناك مراكب الموت نحو أوروبا والاستماتة في الذهاب إلى بلاد قد توفر له فرص بديلة وبيئة حاضنة، منطقتنا العربية ستبقى منطقة طاردة وأوروبا القريبة منطقة جاذبة، وأن الأجيال السابقة من المهاجرين الذين وصلوا لأوروبا كانوا يحملون علاقة حميمة مع أوطانهم أما الاجيال التي أتت من بعدهم لا يعيشون نفس الأحاسيس هم أبناء الوطن الذي يعيشون فيه ويتأثرون بثقافة اهلهم.
وفيما يتعلق بمدى نجاح النخب العربية المقيمة في المهجر في الدفاع عن القضايا العربية الأساسية من خلال مشاركتها الفاعلة في الحياة العامة في المجتمعات الغربية، اعتبر الدكتور هيثم الزبيدي، في مداخلته، أن مهمة النخب العربية في المهجر لم تتم، معتبرا الأمر تعبيرا عن فشل يجب الاعتراف به، مقرا بأن تأثير النخب العربية على دول المهجر بقي محدودا وأبعد ما يكون عن الفعل المؤسسي، لأنه يعاني من تضارب مصالح رعاة أي مشروع من مشاريع الحضور الثقافي والسياسي والإعلامي. ليس تضاربا في مصالح بعضهم مع مصالح البعض الآخر فحسب، بل في الكثير من الأحيان يكون تضاربا في مصالح الراعي نفسه عندما يقرر أن يغير، بعد سنوات أو حتى أشهر، رأيه أو أولوياته.
وأكد خطار أبودياب، أستاذ العلوم السياسية بالمركز الدولي للجيوبوليتيك بباريس، أن “النخب العربية في الغرب تقع عليها مسؤوليات مهمة، والدول مطالبة بأن تشكل مجموعات ضغط، ومن حقها ذلك، ولكن يمكن أن نشتغل سويا في الدفاع عن قضايا مشتركة مثل القضية الفلسطينية”، مقدما إجابة عن سؤال “لماذا نحن نتأخر والآخرون يتقدمون؟ قائلا “إننا لم نتمكن من احترام الآخر والاعتراف بالآخر، ولم نتبن مفهوما صحيحا للحداثة، بالرغم من كل ما ضخمه صاحب نظرية صدام الحضارات، حيث دوما كانت هناك حضارة تتقدم عن باقي الحضارات، والغرب هو من يملك اليوم الغلبة، والصين لما أرادت أن تتقدم أخذت كل شيء من الغرب”.
والمشكلة هي أن هذه البيئة الحاضنة التي لم تعد كذلك أصبحت صعبة وغير مرحبة كما كان عليه الحال بعد الحرب العالمية الثانية عندما كانت تحتاج إلى اليد العاملة لإعادة الإعمار، وبالنسبة لمحمد قواص، يقول “بحسب تجربتي في فرنسا حتى نهاية التسعينات كانت باريس موطنا لكل الثقافات العربية الصحافية والثقافية والجامعات والجاليات العربية المختلفة، وفجأة تم تجفيف هذا الحضور العربي الثقافي لصالح لندن.. هناك شعور دائم أن هذه الجاليات تفتش عن نفسها. فالجاليات العربية لا تذهب لتمثل بلدانها وإنما لمصالحها الشخصية سواء على مستوى التعليم أو المال أو غيره وليس مطلوب منهم حمل رسائل حضارية ممثلة لهذه الدولة أو تلك، وبالتالي من الطبيعي أن تكون الجاليات العربية منقسمة تعكس تعدد تلك الدول.
بين الإدماج والاندماج
بخصوص انعكاسات الوجود العربي الكثيف في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية والجنوبية، على ظواهر سياسية وأمنية جديدة، مثل الاندماج القومي، شدد محمد الهادي الدايري، وزير خارجية ليبيا الأسبق، أن الجاليات العربية نجحت في الاندماج داخل مجتمعات الدول المستقبلة بأميركا اللاتينية التي لجأوا إليها وهي نموذج للضيافة جيد، يشعر المهاجر العربي بالارتياح وبكونه مواطنا دون إجباره على تغيير نمط عيشه، عكس دول مثل فرنسا والولايات المتحدة التي تجبر المهاجر على تعلم اللغة مباشرة بهدف دمجهم في الثقافة وأسلوب الحياة.
وفي نفس السياق أكد الكاتب الصحافي العربي عبدالوهاب بدرخان، أن المهاجرين في أوروبا لا مستقبل لهم سوى الاندماج داخل بلد الاحتضان ولا يوجد حل آخر، وإذا كان على الجالية المهاجرة أن تكون فاعلة سواء على المستوى الشخصي أو المستوى العام، لابد أن تكون مندمجة. والحديث عن وجود وزراء ووزيرات من المغرب العربي في أوروبا يؤكد أنهم لم يصلوا إلى تلك المراكز إلا لأنهم أثبتوا واقع اندماجهم داخل الثقافة الأوروبية فرنسية أو غيرها. وإذا أردنا أن نقيم تجربتهم من زاوية قضايانا العربية فكلهم سيئون لأنهم يريدون إرضاء الجهة التي أوصلتهم إلى تلك المرتبة.
اقرأ أيضا:
وإذا كانت دول الاحتضان لم تعد قادرة على تحمل الهجرة فما عساها الجاليات أن تفعل سوى الاندماج باحترام قواعد وقوانين بلد الاستقبال والمشاركة في الحياة السياسية والثقافية رغم أنها وجدانيا ستبقى مرتبطة بموطنها الأصلي. وكتجربة شخصية أكد بدرخان، “إنني أعيش داخل بريطانيا وفي عقلي الشرق الأوسط. وبحكم عملي كصحفي لم أنضم إلى أحزاب أو جمعيات كعدد كبير من الحالات، لكن حتى من بادروا لم يقدروا على الوصول إلى مراكز مهمة سوى بعض الأشخاص الذين ولجوا مناصب عن طريق الأعمال وعقد الصفقات مع هذا الحزب أو ذاك، ولكن أريد التأكيد أن الاندماج هو المسار الوحيد مستقبلا للمهاجر العربي، كما أن على الدول العربية أن تطور نفسها كي لا تبقى طاردة للطاقات والنخب والناس العاديين الذين يهربون لأسباب سياسية أو هجرة اقتصادية أو لطلب العلم.
وساق الدكتور هيثم الزبيدي، في معرض تدخله نموذجا لتجربته الشخصية في بلاد المهجر التي استقر فيها منذ نهاية الثمانينات إلى اليوم، وهي الفترة التي سمحت له، هو المهتم بالشأن السياسي العام في بريطانيا، وبحضور الندوات واللقاءات السياسية الخاصة، الاحتكاكَ بالكثير من الشخصيات العامة والمسؤولين الغربيين، بالإضافة إلى تأسيس عدد من المبادرات الإعلامية المهتمة بالعالم العربي، مثمنا هذه التجارب التي حاولت كسر حاجز اللغة بتركيزها على اللغة الإنجليزية لتسهيل التواصل والتأثير داخل الأوساط الغربية.
وبحسب الليبي محمد الهادي الدايري، فإن الادماج يبقى الأهم، وهناك من يرى طريقة تفاعل المهاجر مع المجتمع المضيف بأن يحافظ على عاداته وتقاليده، مقابل توجه آخر يرى أن لا حرج من التماهي التام مع عادات وسلوكات بلد المهجر كشرط حقيقي يمكن من الاندماج والاستقرار، ورأى أن لا مشكلة في تهدئة الجانب العاطفي المرتبط بالبلد الأصلي وخلق توازن في ازدواجية الهوية من أجل تحقيق الاستقرار.