منافسة إقليمية بين مصر وإسرائيل

لا توجد عداوة سياسية على المستوى النظري بين مصر وإسرائيل، ويحرص كل طرف على الالتزام إلى حد بعيد باتفاقيات السلام مع الآخر ويحافظ على عدم المساس بها، لكن عمليا بدأت تظهر ملامح منافسة إقليمية تخرج عن السياق الذي عرفته طوال سنوات سابقة كانت فيها إسرائيل تسعى لتحقيق مكاسب في مناطق النفوذ التقليدية لمصر وفي أماكن بعيدة أخذت شكلا صراعيا أكثر منه تنافسيا.
أخذت هذه المعادلة تتغير ملامحها وتشهد تطورا مختلفا، حيث يتوارى المنهج المعروف في الأزمات المشتركة بدءا من الصراع العربي – الإسرائيلي وحتى التغلغل في الكثير من الدول الأفريقية الصديقة لمصر، وتتوسع الآن الدولة العبرية لتكون عنصرا فاعلا في المنطقة عبر نجاحها في تطوير علاقاتها مع عدد من الدول العربية.
أوجدت المقاربة الإسرائيلية الجديدة حيال دول الخليج وتصاعد حدة المواجهة مع إيران والتغول في منطقة الشرق الأوسط عموما، تماسا مباشرا مع المصالح المصرية من المتوقع أن يأخذ نمطا تنافسيا، فغالبية التوجهات التي تتبناها إسرائيل يمكن أن تؤثر على الرصيد الإقليمي للقاهرة الذي تراكم عبر سنوات طويلة.
يأتي الكثير من تحركات إسرائيل في نفس المجال الحيوي لمصر بما يؤدي إلى تعاون وتنسيق في الأدوار أو تغيير في نسق العلاقات أو حدوث ملاحقات ومطاردات سياسية حول أيهما سوف يتمكن من تثبيت أقدامه، مع مراعاة أن القاهرة لا تزال تملك رصيدا جيدا ولا تزال تصورات تل أبيب محل اختبار.
يفضي التباين الحاصل في أجندة كل طرف إلى احتكاك من نوع آخر تختلف معالمه عن الاحتكاكات المسلحة التي خاضها الجانبان على مدار عقود بانتصاراتها وانكساراتها، لأن إسرائيل عازمة على الدخول في صفقات مع العديد من الدول في المنطقة، وراغبة في أن تتحول إلى رقم سياسي واقتصادي محوري، إلى جانب تفوقها العسكري الذي يجذب إليها بعض الدول ويدفعها إلى إمكانية التفكير في عقد تحالفات معها.
تؤثر المكاسب التي تحصدها إسرائيل في هذا الإطار على مصالح مصر في المنطقة، وربما تضعها أمام خيارين إما الدخول معها في علاقات أكثر تقدما في مجالات متباينة أو التصدي لها وتكوين جبهة سياسية تفرمل تحركاتها المتسارعة.
حتى الآن لا ترغب القاهرة في تطوير العلاقات مع تل أبيب بصورة تمنحها امتيازات نوعية، وغير مستعدة لفرملتها بالمواجهة، واختارت وضع قديمها تدريجيا بحساب في الناحتين لتستكشف معالم الطريق، أي أنها تحافظ على علاقات هادئة ومستقرة، وتحاول تحجيم أطماعها عبر تفشيل بعض مشروعاتها السياسية في المنطقة.
ما تحت السطح يكشف أن القاهرة تراهن على وجود ممانعات أمام تقدم إسرائيل ظهرت بوضوح في عدم المضي بوتيرة سريعة في ملف التطبيع، وهو رهان قد يفشل مع تحولات تلعب إسرائيل دورا في تحريكها لصالحها
تبدو التصرفات المصرية واقفة عند الحضور السياسي والدبلوماسي دون تبني إجراءات تظهر بها امتعاضها من التحركات الإسرائيلية، فقد تكون في مرحلة مراجعة أو بلورة أفكار تتواءم مع المستجدات بصورة تستطيع بها السيطرة على زمام الأمور.
مع أن القاهرة تمتلك من الأدوات ما يمكنها من المنافسة الحقيقية غير أنها تتمنع في التعامل بشكل يقود إلى التسليم بما تريد إسرائيل ترسيخه من تجاهل للثوابت التاريخية الحاكمة للقضية الفلسطينية، وحرفها عن مساراتها الرئيسية، وهو ما يجعل مصر تذكر دوما بأهمية هذه القضية الأمّ أولا.
عبّرت بعض التطورات عن الفرق بين طموحات إسرائيل والمكانة الإقليمية لمصر، وأن الأولى يقف في طريقها العديد من المصدات في المنطقة، بينما تحظى الثانية بركائز تفيدها في إمكانية التفوق عندما تدخل المنافسة مراحل متقدمة.
خذ مثلا الصواريخ التي وجهتها إيران عبر الحوثيين في اليمن على دولة الإمارات العربية في أثناء الزيارة التي قام بها رئيس إسرائيل إلى أبوظبي أخيرا، بينما مرت قبلها بأيام قليلة زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مرور الكرام.
تنطوي هذه المقارنة على معنى مهم بالنسبة إلى المعوقات التي ستواجه إسرائيل إذا أرادت التمادي في توسيع نفوذها السياسي بموجب توازنات ترسمها لنفسها وتغير بها التوازنات القديمة، بينما تخدم المضامين التي حملتها رسالة الحوثيين الدور المصري وتؤكد أن هناك نتوءات مزمنة لن تستطيع إسرائيل أن تجد لها علاجا ناجعا.
يشير هذا البعد إلى أن أمام إسرائيل شوطا طويلا كي تتمكن من حرق المراحل في تطوير العلاقات الإقليمية، بدليل أن بعض الدول التي دخلت معها في اتفاقيات سلام تتردد في توسيع نطاقها عمليا، ودول أخرى كان من المفترض أن تدخل هذا الفضاء تعيد حساباتها خشية أن تواجه بردود فعل داخلية سلبية.
تلعب هذه المكونات دورا مهما لصالح مصر إذا استغلتها يمكنها أن تحد من تطلعات إسرائيل التي زادت أطماعها السياسية مع تكالب قوى إقليمية مثل تركيا وإيران على المنطقة العربية التي تعاني من فراغ بسبب انهماك دولها في مشاكلها الداخلية.
تحتاج القاهرة إلى البناء على رصيدها الكبير في المنطقة وتجاوز إخفاقاته، ما يمنحها أفضلية على إسرائيل أو غيرها، وعليها أن تعيد النظر في علاقاتها مع الدول العربية التي قد تجد في إسرائيل حليفا محتملا وعلى استعداد للتجاوب مع أهدافها الأمنية، في حين تفكر مصر مرات في تبديد هواجس تلك الدول عمليا وما تحمله من تداعيات.
تنفذ إسرائيل من هذه الثغرة ويمكنها أن تصبح مع الوقت منافسا خطيرا لمصر، وتقلب شكل الخارطة في المنطقة وتتحول من عنصر أساسي للتوترات في المنطقة العربية إلى مؤيد لتبديدها لدى البعض، ما يعيد ترتيب الأوراق وفقا لرؤية تعمل الولايات المتحدة على تدشينها وتضمن بها الحفاظ على مصالحها ووضعها في يد إسرائيل.
بموجب النتائج التي يمكن أن تترتب على هذا التصور تستغني واشنطن عن خدمات القاهرة، لأن بعض المفاتيح تمسك بها إسرائيل وتتصرف فيها بما يناسبها، ما يعني تقويض دور مصر وإجبارها على القبول بتحالفات سياسية وشراكات اقتصادية قاومتهما طويلا أو فرض عزلة عليها أو الدخول في منافسة والانحياز إلى معسكر مقابل.
تفرض كل الخيارات المتاحة إعادة النظر في التعامل مع إسرائيل التي لا تزال تُحسب في العقل المصري والوجدان العربي العام ضمن صفوف الأعداء، ولم يغير السلام الممتد معها هذه المسألة.
لذلك قد تأخذ المنافسة معها سياقات سياسية مختلفة في الفترة المقبلة وتظل بعيدة عن المواجهة المعلنة والصريحة، لكن ما تحت السطح يكشف أن القاهرة تراهن على وجود ممانعات أمام تقدم إسرائيل ظهرت بوضوح في عدم المضي بوتيرة سريعة في ملف التطبيع، وتخريب طبخة صفقة القرن عقب مغادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب البيت الأبيض، وهو رهان قد يفشل مع تحولات تلعب إسرائيل دورا في تحريكها لصالحها.