ممكنات التغيير السياسي المقبل في العراق

هناك اعتقاد وهمي مهيمن على عقل قادة الأحزاب المتحكمة بالبلد يقول إن سلطتهم بأمان طالما هناك ميليشيات تحميهم وموالون يسبّحون لهم ودولة جارة اسمها إيران ستقف بقوة للدفاع عن حكمهم.
الثلاثاء 2022/07/05
أحزاب أسست ثنائية الفشل والفساد

من المبررات الأولى لمشروعية قيام تغيير ثوري وطني جذري للنظام السياسي في عراق ما بعد 2003 هو انهيار شرعية الطبقة السياسية التي حكمته منذ عام 2005. استمرار هيمنتها على السلطة لسبعة عشر عاما لا يعني مشروعيتها، فمرور سنوات طويلة على مزاولة اللص لسرقاته لا يرفع عنه هذه الجناية بل يزيد من وطأتها.

حَوّرتْ الأحزاب المبررات الأولى لاستلامها السلطة من خدمة الشعب وفق مبدأ الحساب والعقاب الأخلاقي والسياسي إضافة إلى المبدأ الديمقراطي الذي أعلنوا كذبا العمل به بما يؤمّن لهم تجديد السلطة فقط، إلى وضع وتعميم مبررات طائفية متخلفة طارئة للحكم كانت جزءا من شعارات معارضة أوتوقراطية موجّهة من خارج الوطن منفصلة عن الحاضر مثل “مظلومية الشيعة”، مررتها طهران بمكر قبل 2003 عبر وسيطها المزدوج أحمد الجلبي إلى قوى اليمين الأميركي في واشنطن الباحثة عن بديل معارض جاهز يُغطّي ويبرر احتلالها للعراق.

كان الفرق كبيرا وهائلا ما بين شعارات معارضة تُمرّر عبر نشرات صفراء أو حتى فعاليات فردية مُضخمة لاقتناص مواطن موال للنظام السابق هنا وهناك في قصب أهوار الجنوب المعزولة، أو تفجير لمبنى حكومي في العاصمة أو خارج العراق ضحاياه مدنيون أبرياء، أو الانضمام لصفوف الحرس الثوري الإيراني في مقاتلة جيش العراق خلال حرب 1980 – 1988، وبين استحقاقات قيادة حكم العراق بعيد احتلال عسكري أجنبي أسقط دولته وحلّ جيشه ومؤسساته الأمنية.

~مبررات التغيير الثوري الجذري لنظام الحكم الحامي لتلك الأحزاب قائمة أصبحت تحتاج فقط إلى الوسائل والأدوات التنظيمية وتوفير ظروفها الفنيّة الداخلية والخارجية}

بدل الإسراع في إعادة قيام الدولة العراقية ومؤسساتها وإقامة القانون وتنفيذ برامج خدمة الناس والحفاظ على أمنهم وإشاعة السلم الأهلي والدخول العملي في مشاريع الإنجاز الخدمي العام، في الصحة والتعليم والزراعة والصناعة وغيرها، كان خيار تلك الأحزاب المُبرمج إبقاء الفوضى والاحتراب الطائفي وتعزيز وسائل ديمومتها عبر الميليشيات وفرق الموت، وإبعاد الكفاءات عن المؤسسات الحكومية وتهجيرها عن الوطن والاستثمار السياسي العالي الدائم لقانون الحاكم الأميركي بول بريمر باجتثاث البعث وتحويله إلى سيف مُسلّط على المواطنين.

الأمر الأخطر المترابط مع فكرة التخلّي عن الإنجاز الشعبي هو فتح أبواب الفساد المالي والإداري في أعلى مراكز المؤسسات الحكومية، وبناء إمبراطوريته والغرق في مستنقعه، تحت رعاية قادة تلك الأحزاب وتورّط الكثير من كوادرها في أبشع صوره. لم تكن تلك مشكلات فرعية عابرة قد تبعد بشاعتها إنجازات غابت عن الناس، بل كانت سياسة عليا لتلك الأحزاب أصبحت جزءا من هويتها أسست ثنائية الفشل والفساد.

كان من الطبيعي في ظل أي نظام ديمقراطي حقيقي تنحي الفاشلين والفاسدين في الدورة المنتهية، ليحل بدلاؤهم من المترشحين في الدورة المقبلة ليجرّبوا حظوظهم، لكن في العراق وفي ظل “الديمقراطية” الأكذوبة لم ولن يحصل ذلك، فالفاشل والفاسد يعاد تدويره وفرضه على الناس بطرق شيطانية تعلموها. حتى وإن كانت نسبة المشاركة في الانتخابات لا تتجاوز 20 في المئة، يبادر قادة الأحزاب “التاريخيون الشيعة” في مواجهة الشعب الرافض بالقول: ألم تنتخبوهم تحملوا خياراتكم.

لقد فضحت تلك الأحزاب نفسها وأصبح واضحا أنها لا تؤمن ولا تُطبق مبدأ تداول السلطة عبر الانتخابات، حصل ذلك مرتين: الأولى عندما طُردتْ قائمة إياد علاوي غير الطائفية بعد فوزها الانتخابي عام 2010 واغتصاب رئيس حزب الدعوة نوري المالكي للحكم، والثانية عام 2022 بعد الهزيمة الانتخابية للقوى الولائية، ثم إجبار قائمة التيار الصدري الشيعية على التخلّي عن الفوز لصالح كتلة رئيس حزب الدعوة نوري المالكي ذاته ليصبح المتحكم الأول داخل البرلمان وخارجه. كلا المثالين استخدمت من خلالهما بمهارة وبإرشاد إيراني مباشر المحكمة الاتحادية كوسيلة قانونية حاسمة.

أي ديمقراطية في العالم تقول بالأغلبية الطائفية (الشيعية) لكي تحكم الأحزاب كذبا باسمها، بعد أن تُخضع السياقات الانتخابية على تحقيق هذه النتيجة ويُجبر الفائزون على ذل. وإلا يوصف قادة الأحزاب غير الشيعية بالمخربين ومثيري الحرب الشيعية –الشيعية (حالة فوز تحالف وطن) الأخيرة مثال على ذلك.

الأحزاب التي رفعت خداعا الشعار الطائفي (الشيعي) والدفاع عن المذهب لم تعد على أي صلة به بعد غرقها في ملذات السلطة وفساد الحكم، لقد أُفقر الشيعة وأهينوا؛ مثلا لم تقدم مواسم “المواكب الحسينية”، وهي في مظاهرها مكر إيراني، لعامتهم من البسطاء والفقراء غير وجبات الطعام الموسمية وسط تصاعد مظاهر الاستغراق بالتخلف والجهل والبكاء واللطم، لإبعادهم عن مواجهة الحقيقة اليومية المرّة في الفقر والمرض والبطالة والمخدرات. الحرمان ذاته يعيشه جميع أبناء شعب العراق.

هذا التطور والتداعي في ديناميكية الفساد الخرافي لتلك الأحزاب الشيعية الموالية لطهران وعزلتها التامة عن الجمهور العراقي، رغم تحكمها بجميع السلطات عبر أدواتها المسلحة النظامية وغير النظامية الميليشياوية، قد وضعها على حافة الهاوية.

أصبحت مبررات التغيير الثوري الجذري لنظام الحكم الحامي لتلك الأحزاب قائمة، تحتاج فقط إلى الوسائل والأدوات التنظيمية وتوفير ظروفها الفنيّة الداخلية والخارجية. هناك سعي محموم لمنعها عن الطلائع الثورية المتمثلة بثوار أكتوبر عبر خيارات دائما ما يسعى لها الحكام المستبدون، وذلك بالمزيد من القتل والاعتقالات والتغييب لمنع تصعيد المظاهرات الشعبية مجددا إلى أشكال جديدة من العصيان المدني. إلى جانب حملات تشويه السمعة الوطنية لهذا التيار الثوري الشعبي الكبير ووصف الناشطين “بالجوكرية” والبعثيين وعملاء السفارات، ثم حاليا يوصفون بالنفعيين وإن تنظيماتهم التي شاركت بالانتخابات الأخيرة، رغم النسبة القليلة، قد انشطرت وانقسمت ولم تعد هناك ثورة أكتوبر. هكذا. أوصاف هي مثار للسخرية في محاولة لإبعاد صفة العمالة عن قادة تلك الأحزاب المفضوحة لطهران وسفارتها ببغداد وصلتهم المباشرة بالحرس الثوري الإيراني صاحب الكلمة الأولى في العراق.

واحد من بين أساليب المخادعة التي دائما ما تطرحها أنظمة الاستبداد عند وصولها حافة النهاية من أجل تيئيس الناس هو إشاعة طروحات مزيفة ساذجة مثل “ما هو البديل؟”، وعلى العراقيين القبول بالحالة لأن البديل “المجهول سيدمّر العراقيين”.

~بدل الإسراع في إعادة قيام الدولة العراقية ومؤسساتها وإقامة القانون وتنفيذ برامج خدمة الناس والحفاظ على أمنهم كان خيار تلك الأحزاب المُبرمج إبقاء الفوضى والاحتراب الطائفي وتعزيز وسائل ديمومتها}

وسائل إعلام أحزاب الحكم في العراق عبر بعض المحللين، تستبعد احتمالية قيام “انقلاب عسكري وطني” في عراق الانقلابات، لا لسبب سوى قناعتها وقناعة قادة الأحزاب غير المستندة على الواقع أن عهد الانقلابات في المنطقة قد ولّى، رغم حصول انقلابين ناجحين قبل سنوات قليلة على نظامي حكم في أكبر بلدين عربيين هما مصر والسودان. مثل هذا السيناريو سيمنع احتمالات الفوضى التي قد تُحدثها الميليشيات المسلحة. هذا السيناريو احتماله قائم ولا تمنع قيامه آراء عابرة لبعض المدافعين عن بقاء العملية السياسية المرفوضة من كل شعب العراق.

هناك اعتقاد وهمي ساذج مهيمن على عقل قادة الأحزاب المتحكمة بالبلد يقول إن سلطتهم بأمان طالما هناك ميليشيات مسلحة تحميهم وموالون يسبّحون لهم ودولة جارة اسمها إيران ولي الفقيه خامنئي ستقف بقوة للدفاع عن حكمهم. هم يتناسون الماضي القريب رغم أن المعادلة غير دقيقة لأن من أنهى النظام في العراق ليس الشعب ولا أحزاب المعارضة، إنما قد تم ذلك بقوات الاحتلال الأجنبي، لكن مع هذا الظرف لم تتمكن الملايين المؤيدة ولا الجيش الجرار من حماية سلطة القصر الجمهوري ببغداد.

يعتقد قادة الأحزاب، وهم صادقون بذلك، أن أكثر أساليبهم بشاعة في القتل والقسوة والعنف لا توقف النضال الشعبي عن مواصلة مهمات التغيير طالما يستمر الظلم والفساد والإفقار والتجويع وتخريب المجتمع وعسكرته بهيمنة الميليشيات واستهتارها بجميع القوانين والنظم لأبسط مقومات النظام، ولا نقول الدولة لغيابها منذ أبريل 2003. الزعامات السياسية تعرف هذه الحقيقة وتعرفها الأدوات التنفيذية في الحكومة أيضا، فلا بدّ من الإسراع في نهب المزيد من الأموال والثروات.

قبل خسارة الديمقراطية الكاذبة التي ادعت الولايات المتحدة تطبيقها في العراق وأتت بهذه الأحزاب الفاسدة وفقها، وقد لا تأسف على فراق إيقاعها الكاذب لفترة في حالة التغيير الثوري الشعبي العراقي، ألا يستحق العراقيون حياة ديمقراطية كريمة ينتشلون من خلالها من الواقع المأساوي الذي يمرّون به؟

في فرصة مقبلة قد يكون الحديث مناسبا حول الأدوات التنظيمية للمعارضة العراقية اليوم، ومدى تأثير فعاليات ونشاطات المعارضين للعملية السياسية في داخل العراق وخارجه.

9