"ممالك النار" قصة أبعد من سيرة سلطان شهيد

ما إن أعلن موعد عرض “ممالك النار” على قناة “أم.بي.سي” حتى انطلقت حملة مرتبة، أزعجها أن المسلسل يحيي فكرة مقاومة الغزو/ الاحتلال العثماني. محاولة فشلت في التشكيك بتاريخ أجمع على وقائعه مؤرخوه المعاصرون، مقابل تزوير تاريخي بنيت عليه مسلسلات تركية كـ”قيامة أرطغرل” و”كوت العمارة” و”عاصمة عبدالحميد”، وفي الطريق “فيلينتا مصطفى” و”قيامة عثمان”.
وقبل أيام فقط تم بث الحلقة الأخيرة من المسلسل، فتركت المشاهدين أمام عمل غير عادي، أخرجه البريطاني بيتر ويبر، عن آخر سلاطين المماليك، الأشرف طومان باي.
“كأنني على البحر وقد قامت فتنة عظيمة، وما بقي معي أحد. وإذا بخمسة كلاب سود تريد أن تفترسني، فجذبت سيفي لأضربها فطار من يدي وسقطت عمامتي، فصرت بينها كقطعة لحم، كل واحد ينهشني من ناحية، فابتأست من نفسي”. حلم تذكره طومان باي، حين عرض بن مرعي عليه الاختباء في وادي يإقليم البحيرة. مبكرا توقع أن تكسره الخيانة، كما هزمت سلفه في مرج دابق. هو طومان باي الدوادار الثاني، الأول حكم مثله لشهور عام 1501. اسمه يعني بالتركية أمير الضباب. اختفى الأول إلا من قائمة السلاطين وخلد الثاني بلقب “السلطان الشهيد”، كما عنوان كتاب وزير الثقافة الأسبق، عماد أبوغازي.
رجل الدولة
مشاهد مقاومته واستشهاده أبعدت الضوء عن أوجه أخرى له. في روايته “على باب زويلة”، 1950، التي أشاد طه حسين بفرادتها، يرسم محمد سعيد العريان مسيرته كواحد من مئات الآلاف الذين اختطفوا من وسط وغرب آسيا، وصيغت هويتهم كمسلمين ومحترفي قتال. هكذا سارت حياته، ورقي لأمير مع تبني السلطان الغوري له. يقول ابن طولون إنه كان “دوادار السلطان الغوري في دمشق، ثم نائب القلعة فيها وفي مصر”. ويوثق ابن الحمصي “وفي يوم الجمعة ثالثه، جمادي الأول، عقد نكاح الأمير طومان الدوادار الثاني بالقلعة، على بنت السلطان الملك المنصور عثمان (حكم 41 يوما عام 857 هـ ثم خُلع)، وحضر السلطان وأمير كبير أزبك وأمير سلاح تنبك الجمالي وخشكلدي البيسقي، وخلع عليهم كوامل، وحضر مولانا شيخ الإسلام، قاضي القضاة الشيخ زكريا الشافعي، وكنت حاضرا”. لم يتزوج غيرها، خلافا لأقرانه، وفق ابن إياس.. “كان ورعا، ملازما للمشايخ أحياء وأمواتا، لم يفعل الفواحش ولم يشرب الخمر”. أوقف جزءا من ثروته على المساجد والمنشآت الخدمية التي بناها الغوري.
يقدمه الحسن الوزان في “ليون الأفريقي” لأمين معلوف “الرجل الثاني في السلطنة، وأكثر القادة شعبية”. يتحرك بمفرده. “هذا لا يصدق، فلم يكن أصغر آمر لعشرة آنفار يتنقل من غير صخب الحرس”. يصفه “كان في الأربعين، طويلا أنيقا أبيض البشرة، طويل الشاربين على الطريقة الجركسية، قصير اللحية مقصوصها بعناية”. ولد مسيحيا فتقبل تعدد الثقافات، رجل دولة يوازن بين المتناقضات. يقول معاصروه إنه أولع بآداب اللغة العربية وبالتواريخ القديمة، ومن جراكسة معدودين اعتبروا أنفسهم مصريين. صدره ابن زنبل مدافعا عن عروبة مصر ضد “علوج الروم”.
إضافة لرواية العريان وكتاب أبوغازي وفصل معلوف، المنشغلين به، سنجده في “1517.. الاحتلال العثماني لمصر وسقوط دولة المماليك” لأبوغازي.. تحت الطبع عن دار ميريت، و”جذور الإرهاب.. أيام سليم الأول في مصر” لحلمي النمنم، ومتفرقات للباحث السوري عدنان قبرطاي. وقبلها يوميات معاصريه، في القاهرة ابن إياس “بدائع الزهور في وقائع الدهور”، وأحمد بن علي المحلي، ابن زنبل الرمال، “واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني”. وفي دمشق شمس الدين الصالحي ابن طولون “مفاكهة الخلان في أحداث الزمان”، وشهاب الدين ابن الحمصي الانصاري “حوادث الزمان ووفيات الشيوخ والأقران”. وإشارات دالة بعشرات الكتب التاريخية والأدبية أبرزها “الزيني بركات” لجمال الغيطاني، وأحدثها “أولاد الناس”، 2018، من ثلاثية المماليك لريم بسيوني.
تركز استحضار سيرته على مقاومته واستشهاده، ونفهم من “الوزان” أن طومان أقنع الغوري بتجاهل نفي الترك نيتهم غزو مصر، فقد أعاد الجيش مرتين بعد تحركه للشام. في الثالثة خرج ليصبح طومان “نائب السلطان/ أمير الغيبة”. سيرته الفعلية بدأت عقب هزيمة مرج دابق. بدا واعيا بأن عوامل أخرى، إضافة إلى الخيانة، صنعتها. والموانئ من جدة إلى الاسكندرية مرورا بدمياط لم تستقبل سفينة لسنوات، بسبب الحصار البرتغالي. والغوري أخذ معه أموال الدولة والأمراء، إلى قلعة حلب. يقول ابن طولون “إن ملك الروم وزنها وأرصدها بحمل 118 جملا”. قبل مرج دابق، لم يجد طومان درهما في الخزائن. وبعدها يروي الوزان “دب الهلع في أهل القاهرة، وتوالت شائعات تقدم العثمانيين. في خان الخليلي نهبت مخازن أتراك ومغاربة، لكن طومان أعاد النظام بقوة. ألغى، لتخفيف وطأة الأخبار المفجعة، المكوس والضرائب، وأرخص أسعار السلع الضرورية”.
احتقار المدافع
يوضح المؤرخون المعاصرون، أن المماليك احتقروا الأسلحة النارية، واعتبروها دخيلة على الفروسية وأنها سلاح العوام. بينما هي، من البنادق إلى المدافع، عماد جيش الغزاة منذ نصف قرن. يصفها ابن طولون “أمرها عجيب، العربات مجنزرة بعضها في بعض كالسور، وكل عربة ترمى بندقة ملء كف من الرصاص، وللبندق صندوق تحتها، مركبة عليه في طول الشخص. أما طبوله، فكل طبل قدر حمولة رجلين”.
ورغم أن الجيش المملوكي هزم نظيره العثماني، بتسيلحه الحديث، في خمس مواجهات متتالية بين بايزيد والأشرف قايتباي، أدرك طومان باي أهمية البارود وأسلحته، خاصة “مدفعية التغوط المرعبة”، كما يسميها ابن إياس، يقول حتى وهو أمير غيبة “أهتمّ بصنع البارود وآلاته”. دشن حركة إصلاحية، حسب الغيطاني في الزيني بركات. يرصد الوزان “كانت تنقصه القوات النظامية فأنشأ فرقا شعبية مسلحة، وعفا عن السجناء الذين ينخرطون فيها. أول مرة يدافع المصريون عن بلدهم منذ قرون”. كانت لحظة “تحول دراماتيكي في نفوس المصريين بانحيازهم إلى الأمير المملوكي الذي تصدى للخطر العثماني بمساندة شعبية قوية، جعلت مصر كتلة واحدة ضده”، كما قراءة اعتدال عثمان لـ”أولاد الناس” بالشارقة الثقافية، يوليو 2019.
أولى مواجهات طومان باي مع الترك شهدتها غزة، حشد عشرة آلاف من تلاميذ الطباق، المدارس الحربية، وأهل الصعيد والعربان والعامة. بعكس مرج دابق، كانت معركة حقيقية، وكما كل مواجهات طومان – سليم ستتكرر “وكاد المصريون يظهرون عليهم”، هذا ما تؤكده يوميات ابن طولون من دمشق حيث تمركز “إدارة الغزاة”. فمن مستهل المحرم 923 هـ، حتى الثالث من صفر يتحدث عن هجمات بمدن الشام طالت الروم، بعد توالي أنباء “كسرهم ومسك سلطانهم”. يكتب في أول صفر “غُلقت غالب الحمامات لقلة الذبل، والبرد متوافر، وصار لا يوقد في المفتوح منها إلا عظام فطايس الأروام الذين ذهبوا إلى مصر، وأنتنت ضواحي البلد منها”.
بالتزامن، كان طومان يتجهز في القاهرة. يروي معاصروه “زاد عزمه في سبيل المكاحل والبنادق. صنع مدافع بعضها من النحاس، رتب عرضا لمئة منها محملة على عجلات خشبية، يسحب كلا منها زوج أبقار، ومئتا جمل محملة ألفا وخمسمئة طارقة بارود ورصاص، وآلاف الرماة بالأسلحة النارية، جلهم مصريون وسودانيون، يرمون بالمقاصل والبنادق”. كانوا دائمي التمرين، حتى أن القاهرة كانت ترتج لقذائفهم. لكن الفارق كان شاسعا مع تسليح الغزاة، عددا وتقنية، وهو ما سيختبر في الريدانية وبولاق والوردان.
ضراوة معركة غزة دفعت طومان إلى تغيير رؤيته للمواجهة، جمع الأمراء الذين ضغطوا عليه للتسلطن، وطالبهم بملاقاة الغزاة في صحراء سيناء وهم منهكون، أصروا على التمترس في القاهرة. وبينما كان العربان يخطفون من جيش العثمانيين العشرات ويرسلون رؤوسهم لتعلق بأبواب المحروسة، رفض طومان عرض سليم “اضرب السكة باسمنا، ولك من غزة إلى مصر”.
ويسجل ابن إياس محاولة لاغتياله، حيث دخل خيمته ملثم مسلح، فقبضه الجنود ليكتشفوا أنه امرأة تركمانية متأهبة بخنجر تحت ثيابها، فقتلوها وعلقوا جثتها الممزقة مع رؤوس مواطنيها. يورد معاصروه محاولات إقناعه للمماليك بالتجهز، أعطى كل منهم 30 دينارا وجامكية ثلاثة أشهر بـ20 دينارا، لكنهم رموها في وجهه “لا نسافر حتى نأخذ مئة دينار”. نبههم لخواء الخزانة، فطالبوه بمصادرة الأوقاف وخراج الأرض والعقارات، رفض.. “لا أحدث مظلمة أبدا”، وذكرهم “نقاتل عن بلادنا وحريمنا وأرزاقنا”.. وحثهم “ما يضرنا إذا متنا شهداء، فالله يعلم أنهم بغوا علينا”.
قبل هزيمة الريدانية، تنبه طومان لخيانة الغزالي، أراد قتله لكن الأمراء منعوه. بعدها جلس سليم مطمئنا يعين موظفي حصر أموال الدولة والأمراء والأعيان، لكن “رجلا ظل لا يستسلم أبدا. كان يتهيأ لكتابة أعظم الصفحات بطولة في تاريخ القاهرة”. كما كتب “ليون الأفريقي”.
التاريخ بمتناول اليد
يذكر أن وسم #ممالك_النار بقي طيلة فترة بث حلقات المسلسل يحتل مراكز متقدمة في قائمة الوسوم الأكثر تداولا في بلدان عربية عدة فوجئ مشاهدوها بأن المسلسل يجلب التاريخ إلى بيوتهم، ويقلب صفحات ربما تكون غائبة عنهم. من تلك الصفحات معركة بولاق، لم يكمل الغازي ستة أيام، ليفاجأ بحشود تهاجم معسكره ببولاق وتقترب من خيمته، التي نجت من حرائق “الجمال المشتعلة”. استمر القتال أربعة أيام وليال. العوام يرمون المحتلين بالحجارة فانسحبوا من مساحات واسعة، وسيطر المقاومون على القاهرة جزئيا، “يكبسون الحارات في طلب العثمانية”، وقدر ابن زنبل خسائرهم بـ15 ألفا. خطب لطومان في يوم الجمعة، بعد أن دُعي لسليم في السابقة.. لكن الأسلحة الحديثة قلبت الدفة، وفرَّ طومان إلى جنوب القاهرة. قتل العثمان من قابلوه من الأهالي، قال ابن إياس إنهم عشرة آلاف.
جمع طومان الكثير من الجنود وأبناء الصعيد، وبالتوازي، حتى تقوى شوكته، راسل سليم للتفاوض “أو نتواجه في الجيزة في معركة فاصلة يقضي فيها الله لمن يشاء”. بعث المحتل بكتاب مع وفد عثماني ترصده المماليك وقتلوا بعضه. حنق سليم وخرج لقتال طومان قرب الوردان بالجيزة، وبعد معركة حامية استمرت يومين، كانت الغلبة في أولها للمصريين، وأنقذ وابل الرصاص الترك.
طومان يؤرق المحتل، والناس يأملون أن يعود، حينا يقال إنه بالإسكندرية وحينا في الصعيد يجمع جيشا. لجأ إلى شيخ العربان حسن بن مرعي، بناحية البحيرة، الذي أنقذه في عهد الغوري. اقترح عليه أن ينزل في أحد الوديان، فتذكر السلطان المقاوم حلم “الكلاب السود”. أقسم له بالأمان “سبع مرات” ثم أبلغ العثمان، أتت قواتهم واعتقلته.
الأسير والغازي
دخلوا به على المحتل، سلم سلام الملوك، فرد عليه بما لا ينقص من مقامه. “تأمله سليم بعين الفراسة فوجد فيه الشجاعة والفروسية وكمال العقل”، برر غزوه “جئت بفتوى العلماء”. “رفضت أن تكتب باسمي وأن تخطب بي، عملت نفسك سلطانا، من أين لكم الإمارة وأنتم أبناء نصارى”. رد الأسير “الأنفس التي تربت في العز لا تقبل الذل. هل سمعت أن الأسد يخضع للذئب؟ لستم أفرس ولا أشجع منا وليس في عسكرك من يقاسيني في الميدان”.
الأحد 13 أبريل 1517، اقتيد إلى باب زويلة، مكبلا فوق فرسه. تقدم نحو الباب بخطى ثابتة. ناشد المتجمعين قراءة الفاتحة، تلاها معهم ثلاث مرات وسط “نواح وعويل وصيحات استنكار” رغم زجرات الحرس العثماني، التفت للمشاعلي ”اعمل شغلك”. قطع الحبل مرتين، وفي الثالثة “لما شنق وطلعت روحه، صرخت عليه الناس صرخة عظيمة وكثر الحزن والأسى”. “كان أشأم أيام المملكة، وبكته الأرامل والأيتام وحضر سليم الصلاة عليه، وأرسل ثلاثة أكياس من الفضة للتصدق بها على روحه”.
على تويتر قارن بعض المغردين ما بين مشهد اقتياد طومان باي إلى منصة الإعدام، وبين مشهد اقتياد وليام والاس إلى الإعدام في فيلم “قلب شجاع” الذي لعب بطولته وأخرجه النجم ميل غيبسون. لتبقى تصرفات الغازي الدموي، الذي أباد إخوته وأولادهم في صراع العرش، تكذب حملات أحفاده وذيولهم، للتشكيك في أحقية طومان باي في مسلسل يحيي سيرته.