مفتي مصر يسعى لقطع روافد الإسلام السياسي في الهند

حظي مفتي مصر شوقي علام باستقبال حافل من قبل المسلمين في الهند الذين يتزايد لديهم تنامي الشعور بالقلق من أن تكون الروح التعددية المتسامحة التي ورثوها عن أسلافهم قد تعرضت للاختطاف في ظل سيطرة منابر متطرفة تابعة لتنظيم الإخوان المسلمين والقاعدة على الخطاب الإسلامي في البلاد.
القاهرة - تُعد زيارة مفتي مصر شوقي علام إلى الهند قبل أيام هي الثانية له في إطار جولاته الخارجية النوعية، وذلك بعد زيارة سابقة إلى بريطانيا العام الماضي، في سياق محاولات القاهرة الإسهام في دمج وحماية المكونات المسلمة والحيلولة دون اختطافها من قبل جماعات متطرفة.
وخطب المفتي، الذي وُصفت مراسم استقباله بـ”الأسطورية”، أمام 30 ألف مصلّ بجامع الفتوح بمدينة المعرفة بولاية كيرالا، وأكد أهمية دور المسلمين في الهند وعلمائها في إبراز الوجه الحقيقي للإسلام وتصحيح صورته.
وتوضع زيارات مفتي مصر تحت منظار سياسي دقيق، حيث تختلف طبيعتها عن جولات شيخ الأزهر أحمد الطيب من جهة الانخراط في المشكلات التي تعانيها مكونات مسلمة عديدة، وتركز على تقديم الصورة الصحيحة للإسلام ودحض خطاب الجماعات المتطرفة والإرهاب، وكشف زيف أفكار جماعة الإخوان التي تسعى لاستغلال مساحة فارغة أمامها.
وتتسم جولات شيخ الأزهر الخارجية بالتركيز على تمثيل المسلمين عالميًا في قضايا التعددية والتآخي الإنساني والدفاع عن الهوية والحضارة الإسلامية وانتقاد مظاهر الإسلاموفوبيا، فيما تأتي أنشطة مفتي مصر انعكاسًا لما تقوم به مؤسسته في الداخل من مهام.
شعور بالقلق
المسلمون في الهند تسيطر عليهم رغبة جارفة في طي صفحة معاناة امتدت لسنوات من التفوق الهندوسي
عكست الحشود الضخمة التي حضرت خطبة الجمعة الماضية التي ألقاها مفتي مصر بأكبر مساجد الهند بولاية كيرالا تنامي الشعور بالقلق لدى المسلمين الوسطيين في الهند من أن الروح التعددية المتسامحة التي ورثوها عن أسلافهم قد تعرضت للاختطاف.
وقبل ثلاثة عقود ظهرت بهذه الولاية جماعة تُدعى “مسلم آيكا سنغام” بزعامة فاكوم مولوي المتأثر بأفكار حسن البنا وسيد قطب، ما دفع جيلًا جديدًا من المسلمين فيها لتبني الأفكار المتطرفة تحت شعار “الجهاد لاستخلاص حقوق المسلمين”.
وظلت الولاية لقرون قبل هذا التاريخ ترمز للتعايش والتعددية، حيث استقر فيها قديمًا الصحابي الشهير مالك بن دينار مُرسِخًا للتعاليم السمحة وتقبل الاختلاف واحترام التعددية الدينية التي توارثتها الأجيال قبل أن تعطل مناهج المنظر الإسلامي الهندي أبوالأعلى المودودي وسيد قطب هذا المسار باتجاه الجمود والتكفير.
وتفتح زيارة مفتي مصر بأفكاره التجديدية ولقائه مع مفتي الهند أبوبكر أحمد الآفاق نحو استعادة زمام المبادرة ليعزز المسلمون الهنود مكانتهم وإنقاذ عقول من تعرضوا للدعايات المضللة من الشباب.
ويعد سحب البساط من تحت أقدام الجماعات المتطرفة وتيار الإسلام السياسي ونقد التفسيرات الرجعية للإسلام، مفتاح إنقاذ أكبر أقلية في العالم من استمرار توظيفها واضطهادها عبر ازدواجية يعززها التطرف المتبادل بين القوميين الهندوس والمتطرفين الإسلاميين.
وما يدعم التصور العام والأهداف النهائية لجولة مفتي مصر بالهند حرص غالبية المسلمين هناك على عدم تبني دعوات العنف واعتناق المناهج المتطرفة وإظهارهم الولاء للأسس الديمقراطية الليبرالية، واضعين ثقتهم في دستور البلاد ومُصِرين على نيل حقوقهم الدستورية كمواطنين.
الجولة المهمة تُحسب لصالح مفتي مصر الذي يحرص على القيام بمهمة إطفاء حرائق تيار الإسلام السياسي في العالم
وتسيطر على المسلمين في الهند رغبة جارفة في طي صفحة معاناة امتدت لسنوات على أيدي التفوق العرقي الهندوسي واجهوا خلالها حرمانًا سياسيًا واجتماعيًا وإعدامات واسعة خارج نطاق القانون وخطط اضطهاد ممنهج.
وتُحسب هذه الجولة المهمة لصالح مفتي مصر الذي يحرص على القيام بمهمة إطفاء حرائق تيار الإسلام السياسي في العالم، ما يعزز مصالح مصر مع الدول المستهدفة، ويدعم مكانة المفتي أمام منافسيه من قادة المؤسسات الدينية الأخرى.
وتشير طبيعة الساحات التي يزورها المفتي وما يهددها من مخاطر نتيجة التوظيف السلبي للإسلام إلى أنه مُطالَب من قبل القيادة السياسية بترجمة الرؤية المصرية المتعلقة بمجمل ملفات الشأن الديني ذات الصلة بتتبع امتدادات وبؤر نفوذ الإسلام السياسي وجماعة الإخوان في الخارج.
ويُعد موقف الأزهر مُريحًا في سياق التنافس المحتدم بينه وبين دار الإفتاء، حيث يركن للنهج التقليدي بلا انخراط في تفكيك ملفات شائكة، بينما يتعمد المفتي خوض المواجهة الصريحة لطرح رؤية تجديدية في قلب الساحات الأكثر عُرضة للتهديدات الإرهابية والنشاطات المتطرفة في العالم.
وألقى علام خطابًا أمام مجلسي العموم واللوردات البريطانيين في مايو من العام الماضي، وكشف مسؤولية جماعة الإخوان المباشرة عن العنف والإرهاب، وطرح في حينه رؤية متطورة بشأن تفكيك الفكر المتطرف وتجديد الخطاب الديني والحوار بين الأديان، وتسببت الزيارة في هجوم واسع عليه من قبل عناصر الإخوان.
ويُنظر إلى جولة المفتي في الهند كاختبار ثان لمجهودات مؤسسة دينية مصرية يُراد لها تعميم طروحاتها التجديدية خارج الحالة المصرية، بهدف تأكيد الاعتماد عليها في معالجة ملفات الشأن الديني الشائكة بعد الامتناع أو التحفظ الذي تبديه مؤسسة الأزهر بالتصريح والتلميح حيالها.
وعكست الحفاوة التي قُوبل بها مفتي مصر من قبل المسلمين الهنود رغبة في الخروج من نفق اختطافهم من قبل جماعات الإسلام السياسي والسلفية الجهادية من جهة، واستغلال الأحزاب الهندوسية القومية المتطرفة للخطاب الإسلامي المتطرف بهدف تأليب عموم الطائفة الهندوسية وبقية مكونات المجتمع الهندي ضدهم من جهة ثانية.
أغلبية هندوسية كاسحة
لم تُبن دعاية نشطاء حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي القومي الذي يتزعمه رئيس الوزراء ناريندرا مودي بشأن وجود خطط لدى المسلمين لتغيير دستور البلاد والوصول إلى الأغلبية السكانية على أسانيد واقعية، فأعداد المسلمين التي تصل إلى نحو 250 مليونًا تُبقي على تصنيفهم كأقلية في بلد يبلغ يتجاوز عدد سكانه المليار نسمة.
ويروج النشطاء الهندوس المتطرفون هذه المعلومات في سياق حملات التجييش التي تتطور أحيانا إلى أعمال عنف واضطهاد ممنهج ضد المسلمين، استنادًا إلى دعاية مضادة تروج لها جماعات موالية لتنظيمي الإخوان والقاعدة تتضمن خططًا بعيدة المدى لأسلمة الهند والهيمنة على مقاليد الحكم بها.
وكشفت الأجهزة الأمنية الهندية في يوليو الماضي عن وثيقة ضمن ملفات تخص الجبهة الشعبية الهندية الموالية للإخوان تحوي خططًا لتحويل الهند إلى دولة إسلامية بحلول عام 2047 الذي يُصادِف مرور قرن على استقلال البلاد.
وأسهمت صراعات دولية وإقليمية في تنمية نزعات التطرف الإسلامية والهندوسية، وحصلت على قوة دفع من تأكيد باكستان ملكيتها لجامو وكشمير على أساس الدين، ما تسبب في اندلاع ثلاث حروب بين البلدين.
ويشكل تحول الهند إلى قوة صاعدة دوليًا تهديدًا كبيرًا للكتلة المناهضة للغرب في جنوب شرق آسيا والمدعومة من الصين، وهو ما تستفيد منه جماعة الإخوان لتطوير أنشطتها في الهند عبر دعم القوى المنافسة التي تأمل استخدام المسلمين لإثارة اضطرابات ضد الهند لعرقلة صعودها.
ويحتاج المسلمون في الهند إلى مسار يخرجهم من الاستهداف المزدوج من قبل أذرع جماعة الإخوان وأجنحة السلفية الجهادية التي ارتكبت الكثير من التجاوزات بهدف إخضاع المجتمع الهندوسي الذي تصفه بـ”الجبان” واستعادة ما يوصف بـ”المجد الإسلامي المفقود” وتغيير الدستور وجعله إسلاميًا، مقابل الاستهداف الهندوسي على قاعدة الاعتقاد بضرورة تكريس الصفة الهندوسية على الهند باعتبار الهندوس أغلبية.
ويتصرف الناشطون الهندوس في حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم وغيره من منطلق مواجهة مخططات أذرع الإخوان والقاعدة باعتبارها معبرة عن قناعات المسلمين الهنود لدرجة التحريض علانية على الإبادة الجماعية للمسلمين كما جرى في ديسمبر 2021 أثناء اجتماع لكهنة هندوس في دارام سانسادا، وهو تجمع للعرافين الهندوس.
وأسهم تمكين أذرع الإخوان، مثل الحركة الإسلامية الطلابية، والجبهة الشعبية، والجبهة النسائية الوطنية، في اختطاف الصوت الإسلامي في الهند وتأجيج الصراعات بين المسلمين الهنود والهندوس في تراجع الخط العقلاني والتيارات الصوفية التي كان لها دور في انتشار الإسلام بالهند.
نماذج جديدة
المسلمون في الهند تسيطر عليهم رغبة جارفة في طي صفحة معاناة امتدت لسنوات من التفوق الهندوسي
انتشار نموذج الشيخ ديوباند عن طريق جامعة دار العلوم الإسلامية بولاية أوتار براديش ومنح دعاة على شاكلة ذاكر نايك مساحة واسعة بالفضائيات على الرغم من ابتعاده عن السياسة، أسهم بقوة في تمكين جماعات الإسلام السياسي من التحرك وسط قواعد شعبية قابلة للتجنيد والتوظيف السياسي.
وأتاحت التفسيرات المتطرفة لبعض النصوص تجنيد الكثير من الشباب داخل حركات تمرد تتبنى مناهج جماعة الإخوان التي تسعى للاستيلاء على المؤسسات الهندية عبر تقويض أسس الدستور وأركان العلمانية والديمقراطية والقومية باعتبارها معادية للإسلام.
وبعد لجوء السلطات الهندية إلى حظر أنشطة هذه الكيانات الموالية لجماعة الإخوان زاد نشاط الأجنحة الموالية للقاعدة مستخدمة نفس الازدواجية بهدف حشد المسلمين لمواجهات شاملة ضد التطرف الهندوسي ومستغلة المناخ الديني والطائفي المشحون.
وكثفت عناصر القاعدة من أنشطتها على وسائل التواصل الاجتماعي لتجنيد المزيد من الأتباع وحشد الدعم الشعبي بإثارة مشاعر المسلمين، عبر التركيز على العديد من الملفات؛ وفي مقدمتها سياسات حزب بهاراتيا جاناتا التي يعتبرها تمييزية ضد المسلمين، وقضايا متعلقة بفلسطين والقمع والاضطهاد في كشمير وحظر الحجاب والنقاب في المدارس والجامعات.
ويستلهم النشاط التحريضي الذي يمارسه عناصر الأذرع التابعة للقاعدة والإخوان ويهدف إلى خلق شعور عام بالمظلومية والمسؤولية عن الدفاع عن الأمة الإسلامية المناهج التي وضعها المودودي المؤسسة على عقيدة الحاكمية وهيمنة الإسلام على العالم.
ويظل أي إجراء أمني عاجز عن التعامل مع معاناة المسلمين الهنود ما لم يجر تعميم النسخة العقلانية من الإسلام وتكريس مفاهيمه حيال التعددية الصوفية التي حصنت الهند لعقود ضد الفوضى التي ضربت العالم الإسلامي، قبل أن تتراجع منذ ولادة تيار الإسلام السياسي الذي زاد نفوذه منذ تسعينات القرن الماضي.