معيار التغيير في العراق

التطبيل والتزمير، واستئجار الأبواق الدعائية والأقلام المأجورة خلال هذه الفترة، يُروِّجان لفكرة أن “تغييرا عظيما” سيحدث في العراق. لكن في الحقيقة، هذه الادعاءات لا تعدو كونها أمنيات وأوهاما يتبناها تيار سياسي فقد بوصلته، وربط مصيره بـ”الساحر الأميركي” الجديد في البيت الأبيض، يدعى دونالد ترامب.
هذا التيار، رغم ضعفه وعجزه عن تحقيق أيّ تأثير ملموس، إلا أنه بارع في نشر الأوهام وخلق حالة من الانتظار في صفوف الجماهير. وهو بذلك يُسهم في تجميد أيّ حراك فعلي أو حركة تهدف إلى تغيير الواقع السياسي والاجتماعي لصالح الحرية والمساواة والرفاه.
لا شك أن تغييرات ستطرأ على المعادلة السياسية في العراق بفعل تداعيات الضربات الموجعة التي أضعفت النفوذ الإيراني في المنطقة. لكن هذه التغييرات ستقتصر على إعادة ترتيب التوازن داخل المعادلة السياسية، دون أن تصل إلى حد إحداث تغيير جذري يؤدي إلى إسقاط النظام السياسي القائم.
في زيارة سريعة أجراها وزير الخارجية الأميركي السابق، أنتوني بلينكن بعد أيام قليلة من سقوط نظام بشار الأسد، شملت إسرائيل والأردن والعراق، صرّح بأن الولايات المتحدة ستعمل على حماية أمن هذه الدول. حملت زيارته رسالة طمأنة عبّرت عن التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها، حيث وضعت الإدارة الأميركية العراق في مصاف إسرائيل، مؤكدة أن أمنهما يشكل محورا رئيسيا في إستراتيجيتها لتحقيق مصالحها في المنطقة. وهذا يبدد كل التخيلات وأحلام هذا التيار الذي يعيش بخبز يومه، وليس قادرا أن يرى أكثر من وقع أقدامه.
◄ التغيير الوحيد الذي يعني جماهير العراق هو اشتعال الجمرة التي لا تزال متوقدة تحت رماد انتفاضة أكتوبر. تلك الجمرة هي ما يرعب السوداني وبقية أطراف العملية السياسية
أما في ما يتعلق بمسألة حل ميليشيات “الحشد الشعبي” أو الإبقاء عليها، والادعاء بأن ذلك مرتبط بحماية مصالح إسرائيل، فإن هذه الادعاءات والمبررات أصبحت خارج نطاق الحسابات الأميركية والإسرائيلية، وذلك بعد الهزيمة التي مُني بها حزب الله، وسقوط نظام الأسد، والإبادة الجماعية التي تعرض لها سكان غزة وتدميرها، مما أدى إلى تراجع كبير في قدرات حركة حماس العسكرية ومكانتها السياسية ضمن المعادلة الفلسطينية. سواء ادعت حماس، أو حاول مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي إيهام العالم بانتصارها على إسرائيل، فإن الواقع يظل بعيدا عن هذه المزاعم.
فضلا عن ذلك، يدرك النظام السياسي في إيران أكثر من غيره أن الميليشيات الموجودة في العراق، سواء أكانت جزءا من الحشد الشعبي أو جماعات خارجه، غير قادرة على مواجهة القدرات العسكرية الإسرائيلية أو التصدي لهجمات القوات الأميركية. وقد أثبتت التجربة ذلك مع حزب الله في لبنان، الذي كان أكثر تسليحا ويتمتع بحاضنة اجتماعية أوسع، لكنه فشل في حماية نفسه، ودفع مع بيئته الاجتماعية والشعب اللبناني ثمنا باهظا لشعاراته ومنها “وحدة الساحات” ودعمه لغزة، بالإضافة إلى ثلاثيته التضليلية: الجيش، المقاومة، الشعب. وبعدها جاءت الضربة المشتركة والمنسقة التي نفذتها بريطانيا وأميركا وإسرائيل في 10 يناير 2025 ضد الحوثيين في اليمن، والتي تُعد واحدة من أوسع وأشد الضربات المؤلمة. هذه الضربة حملت رسالة مباشرة – وإن لم تكن مقصودة – إلى حلفاء إيران في العراق.
وفي ذات السياق، وعلى عكس تصريح خامنئي خلال لقائه بمحمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، الذي وصف فيه القوات الأميركية بأنها قوات احتلال يجب عليها مغادرة العراق، والذي كان بمثابة رسالة إلى القوى السياسية المحلية في العراق التي تعوّل على الدعم الأميركي للوصول إلى السلطة، تفيد بعض التسريبات الإعلامية بوجود مساعٍ رسمية عراقية لطلب تمديد وجود القوات الأميركية في العراق. ويأتي هذا الطلب تحت ذريعة احتمال عودة تنظيم داعش بعد التحولات الكبرى في سوريا، إثر سقوط نظام الأسد.
إلا أن هذه الذرائع لا تكشف عن الحقيقة كاملة. فالواقع يشير إلى أن حكومة السوداني، التي تمثل الإطار التنسيقي والميليشيات المرتبطة به، كانت على مدار أكثر من عام محمية بمظلة أميركية ضد العمليات العسكرية الإسرائيلية. وتدرك هذه الحكومة جيدا أن غياب الحماية الأميركية سيضع العراق في وضع مشابه للوضع في لبنان، حيث تُضطر الحكومة وداعموها إلى البحث عن وساطات لوقف إطلاق النار مع إسرائيل، وربما توقيع اتفاقية إذعان معها، كما فعل حزب الله بكامل إرادته ووعيه.
إن معضلة سلطة الأحزاب الشيعية وميليشياتها لا تكمن في ترددها بشأن الحفاظ على الحشد الشعبي أو التخلي عنه بحجة “السيادة”، فهي في الواقع غير مكترثة بهذه السيادة. فجميع الأطراف المعنية متورطة في انتهاك سيادة العراق. يكفي أن نُذكِّر بما تفعله القوات التركية في العراق، حيث تمتلك 60 نقطة وقاعدة عسكرية في إقليم كردستان دون أيّ اتفاقية رسمية مع الجانب العراقي، وتُسيّر طائراتها المسيرة متى تشاء في الأجواء العراقية لاغتيال معارضي الحكومة التركية. هذا فضلا عن حرق المزارع، وقصف القرى، وقتل المزارعين الأبرياء. أما إيران، فهي لا تتردد في قصف الأراضي العراقية بالصواريخ، مستهدفة مدينة أربيل تارة بحجة وجود أوكار للجواسيس، في رد فعل على العمليات الإسرائيلية التي تستهدف مواقعها الحساسة، من اغتيالات إلى تفجير مراكز أمنية وعسكرية ونووية مهمة داخل أراضيها. وفي السياق نفسه، يكشف تصريح أبوفدك، رئيس أركان الحشد الشعبي، عن عمق التبعية لإيران، إذ أكد أنه ينتظر أوامر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية للرد على اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس، في طهران.
◄ لا شك أن تغييرات ستطرأ على المعادلة السياسية في العراق بفعل تداعيات الضربات الموجعة التي أضعفت النفوذ الإيراني في المنطقة. لكن هذه التغييرات ستقتصر على إعادة ترتيب التوازن داخل المعادلة السياسية
إن معضلة سلطة هذه الجماعات تكمن في مساعيها اليائسة للحيلولة دون ميل كفة المعادلة السياسية نحو جهة تؤيد السياسة الأميركية أو النفوذ التركي أو الخليجي بشكل خاص، والعربي بشكل عام، في العراق. فذلك قد يُبدد جهود سنوات من العمل، بدءا من عمليات التطهير الطائفي، مرورا بالتغيير الديموغرافي في مناطق الموصل وديالى وصلاح الدين وبابل، وصولا إلى استغلال المادة 4 إرهاب لتصفية المعارضين، وانتهاء بالحفاظ على الامتيازات والنفوذ، واستمرار الفساد والسرقة والنهب دون أيّ رادع.
هذه الأحزاب لا تجد أيّ حرج في تقديم الميليشيات الولائية – الموالية لولاية الفقيه – ككبش فداء للسياسة الأميركية تحت أيّ مسمّى أو ذريعة، وذلك في سبيل الحفاظ على سلطتها. فمن عرف طريقه إلى السلطة عبر الدبابة الأميركية وينزل منها، يدرك تماما كيف يعود ويصعد عليها متى ما اقتضت مصالحه ذلك.
ومن هنا، فإن ما سيحدث في العراق من تغيير نتيجة صراع النفوذ بين الولايات المتحدة وإيران لا يعنينا نحن، العمال الساعين إلى حياة أفضل لنا ولأسرنا، ولا النساء الطامحات إلى المساواة وإنهاء حياة العبودية والتمييز والهيمنة الذكورية، ولا الشباب التواقين إلى الحرية والحياة الكريمة والمستقبل الآمن، ولا المثقفين التحرريين الذين يناضلون من أجل الحرية والأمان.
التغيير الوحيد الذي يعني جماهير العراق هو اشتعال الجمرة التي لا تزال متوقدة تحت رماد انتفاضة أكتوبر. تلك الجمرة هي ما يرعب السوداني وبقية أطراف العملية السياسية. وهي السر وراء حملة الاعتقالات التي نفذتها حكومة السوداني ضد متظاهري أكتوبر. كما أن هذه المخاوف هي التي تقف خلف تقديم مسودة قانون الحريات النقابية إلى البرلمان في هذه الأيام، وهو قانون يهدف إلى قمع حق الإضراب والتنظيم والتظاهر، ويمنع كافة أشكال التنظيمات المستقلة للعمال.