معمرو الأرض ومخربوها

حين وقفت أمام بساتين النخيل في قلب بغداد أحدق في مشهد رؤوسها المختفية، ويباسها واقتلاع سعفها وفسائلها، أدركت كم هو عمق الدمار الذي حلّ بهذا الوطن.
على طريق محمد القاسم السريع أوقفت سيارة صاحبي ونزلت غاضبا وأنا أرى ذلك الاعتداء الصارخ على بغداد وحزامها الأخضر. أكاد أجزم بأن المشهد يستفز حتى أعداء البلاد وليس سكانها الأصليين فحسب.
لحظة ترنو إلى “مجزرة النخيل” التي اقتطعت والتي أميّت المئات منها بقسوة وتحولت جذوعها إلى جثث بلهاء تدعو إلى الرثاء والنشيج والثورة.
وهذا يُعجل ويسهم في تناقص أعدادها من ثلاثين مليون نخلة إلى ستة عشر مليون حاليا، في بلاد سمّيت بـ”أرض السواد” يوما لكثرة نخيلها، حتى تغيرت تلك التسمية إلى أرض قطاع رؤوس النخيل قالها صاحبي غاضبا والذي قادني في سيارته الصغيرة إلى حيث مجزرة النخيل شرقي بغداد، لأعود بذاكرتي أقارن بين الشعوب التي احترمت قياداتها بلدانها وكرّست حياتها لإعمار أرضها، وزرعت الصحراء وملأتها خضرة، وسعت إلى برامج مبدعة في زراعة النخيل وتكاثره، حتى باتت لا تعد أو تحصى من المنجزات، التي أدهشت العالم نتيجة جمال منتجها وسعة صدور وصبر أهلها، وتلك التي لا يحتمل حكامها الجدد مرأى نخيلها.
وأطوف في المدينة وكأني عاشق يتلمس طريقه إلى بيت محبوبته، في بغداد ظلت الأشياء راقدة كما هي، فقد زرت الكثير من المناطق في العاصمة، وتيقنت من أنها تركت أو استخدمت بلا معرفة لتأريخها وشواغلها وضرب تصميمها الأساس بالعشوائيات، دون إدراك بأن الأرض للمعمرين البناة، في بلاد سخّر الله لها الأرض المنبسطة والجبال الشامخة والمياه الوافرة والطبيعة المتنوعة، لديها دجلة والفرات والتنوع البيئي والحضاري، وجيل أغلبه من الشباب يمكنه تولي إدارة العمل.
أسئلة لم تنقطع داهمت فكري وأنا أرى مباني لها تاريخ في ذاكرتي تلاشت وتكاد تندثر علاها غبار الزمن. فحين وقفت أمام سينما غرناطة بقلب بغداد التي كنت ارتادها سنين الجامعة، بعد أن وصلتها بصعوبة نتيجة تكالب عشوائيات بيع الملابس القديمة التي ملأت بغداد والتي صارت تجارة رائجة، أدركت حينها كم هرمت المدينة وتراجعت. فمبناها ترك منذ 2003 والمدينة هجرها روادها.
أخالها تعرض مشهدا واحدا مكررا عن مدينة تحتضر أو نساها الزمن، ليس حالها فحسب بل حال كل دور السينما في العاصمة التي أغلقت أبوابها خشية أن يستهدفها الإرهاب حتى تحولت المدينة التي كانت تفخر بأنها من العواصم الأولى التي شيّدت دور السينما التي تحولت إلى بضعة مبانٍ يأكلها العث وتسكنها الفئران.
وأنا أهمّ بالمغادرة أقرأ على واجهة محل خطاط بغدادي مغلق بقربها: “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها”.