معركة الكيانية السياسية الفلسطينية

اتفاق أوسلو الذي انتزع سيطرة وحكما للسلطة على الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية حاربه اليمينان الإسرائيلي والفلسطيني اللذان تقاطعت مصالحهما في نقطة واحدة هي إضعاف وهدم هذه السلطة.
الجمعة 2023/12/08
معركة سياسية لا تقل ضراوة عن الحرب الدائرة

ما زال الحديث متشعبا دون أفق محدد حول مرحلة ما بعد حماس، كأمر واقع ستفرضه الحرب بالقوة العسكرية فوق جثث الشعب الفلسطيني الأعزل، فجميع الأطراف حتى قادة حركة حماس أصبحوا يتعاطفون مع هذا الواقع من خلال مقترحات سياسية مرنة؛ كقبول حل الدولتين كما أعلن إسماعيل هنية كخيار سياسي يمهد لاعتراف حماس كحركة بإسرائيل الدولة، أو الاستعداد لمناقشة خروج عسكر حماس خارج القطاع، كما صرح مشير المصري لوكالة أنباء روسية للحفاظ على بقاء سلطة نظام حماس بحدها الأدنى من عناصر الشرطة في قطاع غزة.

ومجددا، لا يمكن فصل الحرب الدائرة في قطاع غزة عن أبعادها وتداعياتها الإقليمية والدولية، ورغم زج الشعب الفلسطيني بأتون الحرب وحده، هناك من يسعى لتحقيق مصالحه وتمرير سياساته في منطقة الشرق الأوسط مستغلا الحالة الفصائلية الفلسطينية، وهذه آفة الشعب الفلسطيني منذ تأسيس حركات وفصائل سياسية وعسكرية انطلقت تحت عنوان تحرير فلسطين من احتلال استيطاني يدرك أن معركته الحقيقية مع الشعب الفلسطيني تتمثل في تثبيت أركان كيانيته السياسية في هذا الصراع المستمر منذ البدء بالتخطيط لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.

كثيرا ما رفعت الفصائل السياسية والحركات المسلحة الفلسطينية شعار “القرار الوطني المستقل” في تعزيز هذه الكيانية السياسية لتأسيس الدولة، كمفهوم سياسي فلسطيني قادر على الاستمرار في الساحة الدولية كحق ثابت للشعب الفلسطيني بممارسة حكمه على أرضه، وبعيدا عن نظرية التبعية. فقد انخرطت بعض الفصائل الفلسطينية – ومازالت – في مسارات ومتاهات سياسية خلقتها بعض الأنظمة العربية والإقليمية تارة، وإسرائيل تارة أخرى.

◙ رأس اليمين الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يخطط لتجاوز سياسته السابقة بالتخلص من حكم الأمر الواقع (حماس) في غزة، وقضم أجزاء من القطاع من خلال خلق مناطق عازلة أولا

هذه المسارات والمتاهات السياسية كتعريف قائم بالأساس على إبقاء حالة “الفصائلية الفلسطينية”، مستمرة بنسق سياسي يخدم مصالحها، لتكون أوراق ضغط لها تستخدمها في تمرير وفرض أجنداتها على الساحة الدولية. دول عربية وإقليمية تبنت هذا المنهج، بل هناك دول قامت بصناعة فصائل فلسطينية مسلحة سابقا؛ كنظامي البعث العراقي والسوري ونظام معمر القذافي، واليوم يبرع النظام الملالي في طهران بذلك من خلال حركتي حماس والجهاد.

ما سبق ببساطة سياقه، مثل معضلة حقيقية للشعب الفلسطيني. فاليسار الفلسطيني المتمثل في الجبهات (الشعبية والديمقراطية والقيادة العامة..) كان جزءا من سياسات بعض أنظمة عربية سعت لتكريس أجنداتها عبر قضية فلسطين وشعبها. وبموضوعية، تماهت حركة فتح – الفصيل الأكبر والذي أخذ على عاتقه حمل القضية الفلسطينية كحركة مدنية جامعة لشرائح سياسية مجتمعية فلسطينية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار – في بعض مواقفها السياسية مع سلبيات الحالة الفصائلية خاصة اليسارية منها. ولعل أبرز تلك السلبيات ما أقحمها في صراعات مع أنظمة عربية.

اليسار لم يكن يوما رديفا لحركة فتح، بل كان في مواضع عدة مناكفا يزاحمها على مكتسبات منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للفلسطينيين. وعندما فشل هذا اليسار بجبهاته المتعددة وبدأت معالم انهيار الاتحاد السوفييتي تطفو على الساحة السياسية الدولية، ليتولد نظام القطب الواحد، ساهمت إسرائيل وأجهزتها الأمنية والاستخباراتية بشكل مباشر في خلق تنظيم ذي خلفية سياسية دينية، الإخوان المسلمين تحديدا، كبديل أيديولوجي مغاير لليسار الفلسطيني، لشق الكيانية الفلسطينية، كفكر ومعتقد لا يؤمن بمفهوم الدولة الحديثة بقدر ما يؤمن بالخلافة وتجلياتها المستنبطة من تأويلات حسن البنا وسيد قطب، خلافة عابرة للدول تسعى إليها الجماعة من خلال فروعها في منطقة الشرق الأوسط.

اليسار الفلسطيني وحماس الدينية، أيديولوجية مُستغلقة الفكر والتكوين التنظيمي النابع من الطيف المجتمعي الواحد، على العكس من حركة فتح ذات الواقعية الفكرية السياسية المرنة ذات الأطياف المجتمعية المتعددة في تكوينها التنظيمي، والتي سمحت لها بقيادة منظمة التحرير من هذا المنطلق بمعركة الكيانية السياسية الفلسطينية للخروج بمكتسب اتفاق أوسلو وملحقاته، المحطة الفارقة التي يعتبرها كاتب المقال سياسيا؛ من أهم الاتفاقيات بالتاريخ الحديث المعاصر، كونها تقدم سلطة حكم فلسطيني كمرحلة انتقالية للوصول إلى الدولة الفلسطينية خلال فترة زمنية متفق عليها، دولة مستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 بعاصمتها القدس الشرقية، من خلال تسليم كامل الضفة الغربية وقطاع غزة بسيطرة أمنية ومدنية إدارية للسلطة الفلسطينية، هذا ما أقرته اتفاقية أوسلو وما وافقت عليه أطراف النزاع، وتم تثبيته من خلال الدول الكبرى والمؤسسات الدولية الراعية للاتفاق.

اتفاق أوسلو الذي انتزع سيطرة وحكما للسلطة على الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، حاربه اليمينان الإسرائيلي والفلسطيني اللذان تقاطعت مصالحهما في نقطة واحدة هي: إضعاف وهدم هذه السلطة. السلطة التي استطاعت، بحسب تقارير المؤسسات الدولية ذات الشأن، بناء مؤسسات الدولة وأجهزتها، رغم كل العوائق الإسرائيلية، ففي شهر أبريل عام 2011، أصدر منسق الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط تقريرا مفصلا عن التقدم الذي أحرزته السلطة الفلسطينية في بناء الدولة ومؤسساتها، ووصف التقرير “جوانب إدارتها بأنها كافية لدولة مستقلة”، كما صدر تقييم مماثل قبل ذلك التاريخ للبنك الدولي تحديدا في شهر سبتمبر عام 2010.

بالعودة إلى تقاطع اليمينين الإسرائيلي والفلسطيني الذي تتوج خلال السنوات الأخيرة باعتراف رأس اليمين الإسرائيلي المتطرف بنيامين نتنياهو، بدعمه سلطة الأمر الواقع اليمينية ممثلة بحركة حماس في قطاع غزة، كسياسة ممنهجة تبناها من خلال حكوماته لمنع قيام دولة فلسطينية. وبهذا نصل إلى جوهر الصراع: الصراع ذو الأبعاد المتعددة، القائم على معركة التمثيل السياسي بكيانية لها نظام حكم قائم ومستمد من شعب ما زال على أرضه ذات الحدود المعلومة، يدافع عن ثوابته ومصيره بما أجمع عليه المجتمع الدولي وكفله بقراراته التي يجب أن تتحول تدريجيا بسياقها تحت البند السابع لمجلس الأمن الدولي، الذي يلجأ إلى سلسلة خيارات تتراوح بين العقوبات والعمل العسكري، في حال رفضت إحدى الدول الإذعان لمطالب مجلس الأمن.

◙ رغم زج الشعب الفلسطيني بأتون الحرب وحده، هناك من يسعى لتحقيق مصالحه وتمرير سياساته في منطقة الشرق الأوسط مستغلا الحالة الفصائلية الفلسطينية

اليوم، يخطط رأس اليمين الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتجاوز سياسته السابقة بالتخلص من حكم الأمر الواقع (حماس) في غزة، وقضم أجزاء من القطاع من خلال خلق مناطق عازلة أولا، ومن ثم إنشاء سلطة تابعة أمنيا وإداريا لأجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية التي ستفرض رؤاها السياسية على الحكومات الإسرائيلية القادمة بغض النظر عن خلفياتها الفكرية أو الأيديولوجية. وبذلك تتبلور فكرة هدم الكيانية الفلسطينية من خلال نسف أسس الدولة القائمة على وحدة النظام والقانون والجغرافيا؛ الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية. وهو ما أعلنه نتنياهو مؤخرا؛ بأن تولي السلطة الفلسطينية مقاليد الحكم في غزة لن يحدث طالما بقي رئيسا للوزراء، في رد مباشر على مقال سابق للرئيس جو بايدن نُشر بداية الحرب على غزة جاء به تأكيدا أميركيا على أن السلطة الفلسطينية يجب أن تحكم قطاع غزة والضفة الغربية بعد الحرب، وهو ما ينذر بمعركة سياسية لا تقل ضراوة في تداعياتها المتباينة عن الحرب الدائرة حاليا.

أوروبيا، هناك موقف أصبح يتجلى بقوة وصرامة ضد عدوانية إسرائيل المستمرة، تقوده دول لها وزنها وتأثيرها داخل الاتحاد الأوروبي كإسبانيا وبلجيكا وفرنسا، وإن كان موقفها السياسي ما زال يتسم بحياء الطرح بعض الشيء.

 أميركيا، هناك اعتراف سياسي بحقوق الشعب الفلسطيني من خلال التأكيد المستمر على حل الدولتين، كاستحقاق ليس منفصلا عن مصير الانتخابات القادمة، يحتاج إلى خطوات عملية وفاعلة ستلجأ لها إدارة بايدن بشكل جاد لاسترضاء الناخب الأميركي الديمقراطي الرافض للحرب والدعم المستمر لنتنياهو ورعاعه.

 فلسطينيا، يجب استغلال هذا الثقل السياسي في معركة دبلوماسية مدعومة عربيا وبإشراك صيني – روسي، والبناء عليه لقيادة وتوحيد الموقف السياسي الدولي الذي أظهرته حرب الإبادة المستمرة على الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة وهجمات قطعان المستوطنين الممنهجة في الضفة الغربية، تحت عنوان وإطار سياسي قائم على فرض أركان الكيانية السياسية الفلسطينية دون انتظار اتفاق سياسي تفاوضي مع إسرائيل، بالذهاب إلى مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لإعادة إحياء كافة بنود اتفاق أوسلو كمرتكز ومستند قانوني لإصدار قرار أممي بدولة فلسطينية، حدودها ما أحُتل عام 67 وعاصمتها القدس الشرقية بموجب البند السابع لميثاق الأمم المتحدة، كمتطلب دولي جامع لحل الصراع وقطع الطريق على مخططات اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يخسر من رصيد معركته الدبلوماسية والسياسية يوما بعد يوم بحربه الدموية المستمرة على الشعب الفلسطيني الأعزل.

9