معادلة سياسية متناقضة في حوار أربيل وبغداد

الخروج من النفق لا يتحقق بمراسيم مالية مؤقتة بل بإرادة سياسية تُعيد الاعتبار لمفهوم الشراكة، فبناء دولة عادلة لا يتم بالإقصاء والعقاب الجماعي بل بالحوار والاحترام المتبادل.
الاثنين 2025/06/02
النفط فتيل أزمة طويلة

لم يكن أحدٌ يتخيل أن يتحول الأمل الذي وُلد بعد 2005 إلى هذا الكمّ من الخيبة. حينها، ظنّ كثيرون أن صفحة جديدة كُتبت في تاريخ العراق، وأن الكُرد، الذين شاركوا طواعية في رسم ملامح الدستور، وجدوا أخيرًا شريكًا في الوطن، لا وصيًا عليه. فقد كان الظرف استثنائيًا، والنيات معلنة، والتضحيات مشتركة.

دخل الكُرد العملية السياسية بعقل منفتح، مؤمنين بأن الفيدرالية والدستور هما الضمانة لحقوقهم، وأن بغداد لن تكون مجددًا مركزًا يتحكم في مصير الجميع، بل شريكًا يُنصت ويتفهّم. لكن سرعان ما اصطدمت تلك الآمال بجدران واقع سياسي معقد، تداخلت فيه الحسابات الحزبية مع المصالح الإقليمية، وغابت فيه روح التفاهم.

بداية التصدّع لم تكن مفاجئة. ففي 2007 تعثر تمرير قانون النفط والغاز، رغم أن الدستور كان قد نص عليه صراحة في المادتين 111 و112، لتنظيم العلاقة بين الحكومة الاتحادية والمحافظات المنتجة، بما في ذلك كردستان. ومنذ تلك اللحظة لم يعد النفط موردًا مشتركًا، بل تحوّل إلى فتيل أزمة طويلة، تحرق فرص التفاهم وتزيد الفجوة بين الطرفين.

ثم جاءت سنة 2014، وفيها قررت الحكومة الاتحادية وقف إرسال حصة الإقليم من الموازنة، مبرّرة قرارها بعدم التزام أربيل بتسليم عائدات النفط إلى شركة “سومو”. وفي 2017 بلغ التوتر ذروته مع استفتاء الاستقلال الذي نظّمه الإقليم، والذي كان -أكثر من كونه خطوة انفصالية- صرخة احتجاج ضد انسداد الأفق السياسي. فجاء الرد من بغداد شديدًا: انتشار عسكري في كركوك، قطع شامل للموازنة، وإجراءات عقابية مست قطاعات الحياة اليومية للناس.

◄ دخل الكُرد العملية السياسية بعقل منفتح، مؤمنين بأن الفيدرالية والدستور هما الضمانة لحقوقهم، وأن بغداد ستكون شريكًا يُنصت ويتفهّم. لكن سرعان ما اصطدمت تلك الآمال بجدران واقع سياسي معقد

ومع ذلك لم تُغلق أبواب الحوار بالكامل. رئيس حكومة الإقليم، مسرور بارزاني، أبدى أكثر من مرة رغبة واضحة في إعادة الجسور. وكانت زيارته الأخيرة إلى واشنطن، في مايو 2025، محطة مهمة توّجت بتوقيع عقدين مع شركتين أميركيتين (HKN Energy وWesternZagros) لتطوير البنية التحتية لقطاع الغاز، بما يخدم ليس فقط الإقليم، بل العراق كله.

لكن المفاجأة كانت بانتظاره فور عودته. ففي 21 مايو 2025 أصدرت وزارة المالية العراقية بيانًا أعلنت فيه وقف تمويل رواتب موظفي الإقليم. لم يكن التوقيت بريئًا، بل حمل في طياته رسالة سياسية واضحة: وكأن الاستثمار في الطاقة بات يُعد تجاوزًا، وكأن لقمة الناس يمكن أن تكون ورقة ضغط في نزاع سلطوي.

في خضم هذا المشهد يعود سؤال محوري إلى الواجهة: كيف تحوّل الكُرد، الذين كانوا شركاء في إسقاط النظام الاستبدادي السابق، إلى طرف يُعامل أحيانًا كخصم؟ ولماذا يُصرّ بعض صناع القرار في بغداد على إدارة العلاقة بمنطق الهيمنة، لا الشراكة؟

هذه الأزمة لم تعد مجرد خلاف بين مركز وإقليم، بل باتت تمس جوهر المشروع الوطني العراقي. فالدستور، الذي يُفترض أن يكون مرجع الجميع، منح وفق المادة 115 الأفضلية لقوانين الإقليم في حال تعارضها مع القوانين الاتحادية، باستثناء الصلاحيات الحصرية. كما أن المادة 112 تنص بوضوح على حق المحافظات المنتجة في إدارة الموارد مع المركز، ما يعني أن الحل يجب أن يكون وطنيًا لا جزئيًا.

وفي كل هذا يبقى المواطن الكردي هو الخاسر الأكبر؛ يُحرم من راتبه دون إنذار، وتُعلّق معيشته على قرارات لا يملك فيها رأيًا. وبين كل أزمة وأخرى تتآكل الثقة بين مكونات الوطن، وتتسع الهوة حتى باتت تنذر بالخطر بعد حصار بغداد الاقتصادي على شعب إقليم كردستان.

الخروج من هذا النفق لا يتحقق بمراسيم مالية مؤقتة، بل بإرادة سياسية حقيقية تُعيد الاعتبار لمفهوم الشراكة. فبناء دولة عادلة لا يتم بالإقصاء، ولا بالعقاب الجماعي، بل بالحوار والاحترام المتبادل، والالتزام الصادق بالدستور. وإذا كانت السياسة فن الممكن، فإن الممكن اليوم -رغم كل الجراح- هو عراق يشعر فيه الكردي بأنه شريك حقيقي في وطن يضم الجميع.

9