مظهر محمد صالح خبير الاقتصاد الذي يهمس في أذن العبادي

لندن - تعرّضت شخصيات عراقية عديدة، سياسية وحكومية، للإقصاء السياسي والوظيفي والملاحقة القضائية في عهد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وكان من بينها النائب السابق لمحافظ البنك المركزي العراقي، ومستشار الشؤون المالية لرئيس الوزراء حيدر العبادي حالياً، الخبير الاقتصادي مظهر محمد صالح.
لكن مظهر صالح يتمتع بميزتين؛ الأولى أنه حظي بتعاطف شعبي كبير حتى من أولئك غير المهتمين بالشأن الاقتصادي، كما أنه لم يختر المواجهة كخصوم المالكي الآخرين بل المواجهة هي التي اختارته؛ لينطبق عليه وصف “الضحية” بدرجة أكثر صدقاً من كل “ضحايا” الصراع على السلطة والثروة في العراق.
تحولات العراق
يقول الكاتب العراقي رشيد الخيون في مقالته الموسومة “بغداد .. يا مُظهر بن صالح لو تلبست الجهل لنَجيت وأَثريت!”، على صفحات مجلة “المجلة” اللندنية “الاقتصادي الخبير الدُّكتور، حقاً لا نقشاً، مُظهر محمد صالح نائب محافظ البنك المركزي العِراقي، أُلقي به داخل زنزانة في مركز شرطة العلوية ببغداد، بتهمة غليظة، وهي (الإضرار المتعمد للمال العام وتهريب العملة الصَّعبة). أقول غليظة على مثل نزاهة واحتراف مُظهر صالح، وإلا أجدها أسهل التُّهم على مسؤولين خلت عقولهم مِن أثر المعرفة ونضَّبت ضمائرهم مِن شبه أمانة، وألسنتهم مِن بقية صدق. تلك الألسن التي تجتر يومياً عبارة الحفاظ على الدُّستور والالتزام به، وهي يومياً تخرقه”.
تُعدُّ قضية الدكتور مظهر، في أبعادها الشخصية والقانونية والاجتماعية والسياسية، جزءاً من حالة المخاض والتحوُّل التي يمر بها العراق، ففي وقت تبنى فيه البنك المركزي نهجاً يحاكي الليبرالية في إدارة سياساته النقدية كانت الحكومة ما تزال أقرب للإرث الشمولي.
هذه الإشكالية الاقتصادية تعاملت معها الحكومة العراقية السابقة وفق مقاربة قانونية وسياسية، لا مقاربة واقعية، ومن منظورَي النزاهة والأمن الاقتصادي الوطني؛ الأمر الذي قاد، نهاية عام 2012، إلى إصدار مذكرات إلقاء قبض بحق محافظ البنك الخبير الدولي سنان الشبيبي ونائبه الاقتصادي المخضرم مظهر محمد صالح ونخبة من موظفي وموظفات البنك.
كان الشبيبي خارج العراق، فتم اعتقال وحبس صالح وبعض زملائه. هنالك من حاول إعطاء الأزمة بعداً ثقافياً واجتماعياً يتعلق بالصراع بين الطبقة السياسية المؤدلجة والأقل تعليماً من جهة والتكنوقراط المتعلمين والمدنيين من جهة ثانية.
بساطة وأريحية مظهر صالح وعلاقاته الطيبة بمختلف الأوساط الاجتماعية، النخبوية والشعبية، وهو ما يرجع ربما إلى نشأته البغدادية المنفتحة في أسرة من الطبقة الوسطى، لم تنقذه من سهام النقد ذات الطابع "الطبقي" في أطروحاته الأكاديمية إذ وجهت انتقادات لاستعمالاته الاصطلاحية في بحث له بعنوان "الطبقة الرثة والاستبداد الشرقي في العراق"
استهلاك رجالات الدولة
دافع اقتصاديون وأكاديميون ونشطاء مدنيون عن مظهر صالح وزملائه، الذين باتت محنتهم قضية رأي عام. ونُظِّمت حملة شعبية تُطالب بالإفراج عن مظهر صالح. عادل عبدالمهدي، وزير النفط الحالي، دوَّن وقتها شهادته بحق صالح في مقالته الموسومة “مظهر محمد صالح .. التكريم لا السجن”، والمنشورة بصحيفة “العدالة” البغدادية، جاء فيها “عرفت الاقتصادي والخبير الضليع مظهر في يوليو 2004 بعد استيزاري للمالية.
كان العراق أشبه بالشركة المفلسة المحجوزة الأموال، فيمكن لأيّ دائن حجز شحنات النفط، لولا القرار الأممي، واستطعنا قبل نهاية العام من توقيع الاتفاق الذي سيسمح للعراق بالتخلص من حوالي 120 مليارا من مجموع 140 مليار دولار، وذلك بعد اجتماعات طويلة ومعقّدة مع مسؤولي الدول والمنظمات، وليالي بيضاء مع دول نادي باريس. ووضع الأسس للاتفاق مع بقية الدول والدائنين. وكان مظهر صالح والبريهي وعزيز جعفر، وبالطبع الشبيبي، من أهم رجالاتنا لتحقيق هذا الانتصار، بحجمه وشروطه، ممّا اعتبر سابقة في تاريخ المديونيات”.
ويطرح عبدالمهدي سؤالاً جوهرياً في الصراع العراقي وما يرتبط به من “نزيف عقول” فيقول “أمر محزن أن تستهلك السياسة رجالاتنا، فنحاربهم ونسجنهم ونضحي بأكثر مسؤولينا نزاهة وكفاءة، بشهادة الواقع والعالم. ثم نقف نسأل: لماذا لا نتقدم؟ ولماذا تهرّب أموالنا وكفاءاتنا إلى الخارج؟ فما يقع على مظهر صالح وزملائه وزميلاته ظلم. والظلم أساس الفساد والخراب، والعدل أساس الملك والعمران”.
السلطة النقدية وثمن الاختلاف
على الرغم من استخدامه في تصريحاته لمصطلح “السلطة النقدية” وصفاً للبنك المركزي في إشارة ضمنية إلى كونه “سلطة مستقلة” عن السلطة التنفيذية على غرار السلطتين القضائية والتشريعية، فإن مظهر صالح محمد صالح كان واقعياً وتوافقياً في إدارة الأزمة مع الحكومة، قبيل تفاقمها وإيداعه السجن، محاولاً البحث عن تفاهمات معها.
أشار لذلك إبّان الأزمة حين أكَّد لقناة الحرة ـ عراق أن البنك المركزي هو بنك الدولة، وهي مصدر ما لديه من احتياطي بنسبة 100 بالمئة، ومن الضروري أن يُنسِّق معها، لافتاً إلى أهمية “الدولة” في العراق، ومشدداً على أن “استقلالية” البنك، التي ينص عليها قانونه، لا تتناقض مع ضرورة التناغم مع توجهات الدولة والتنسيق مع الحكومة لا سيما في السياسة المالية، لأن البديل، في اعتقاد مظهر صالح، هو “عزلة البنك” التي تؤكد الأدبيات المعنية على خطورتها. فضلاً عن احترامه للقانون وتسليم نفسه للسلطات بعد صدور أمر إلقاء القبض ضده.
|
هذه الطريقة “التوافقية” التي أدار بها الأزمة ربما ترجع إلى ثقافته الواسعة واطلاعه الموسوعي خارج المجال الاقتصادي، وفهمه لطبيعة المجتمع العراقي وعقلية النخب الحاكمة، وأبحاثه في مجال الاقتصاد السياسي التي تجعله يفهم عمق وتجذّر وتداخل النزعة الهيمنوية السلطوية للحكومات مع ريعية الدولة المعتمدة على النفط وتغوّلها، إضافة إلى خدمته الوظيفية الطويلة وانتمائه البيروقراطي، بالمعنى الإيجابي للكلمة، للدولة ومؤسساتها. كل هذا جعله أكثر مرونة وبحثاً عن حلول تفكك الأزمة ضمن مسارات العقلانية والواقعية بدلاً عن الانزلاق إلى مهاوي مواجهة “ملحمية” داخل جسم النظام الحكومي للدولة.
يبدو مظهر صالح مختلفاً عن زميله محافظ البنك السابق الدكتور الشبيبي، فالأخير شخصية دولية مرموقة عاش وعمل في الخارج، وتشبّع بالثقافة الغربية الديمقراطية لمجتمعات مستقرة أرست قواعد العمل ورسّخت نظمها القانونية والمؤسسية بشكل لم يعد فيه مجال فضفاض – كما هو حال العراق – للنزاع والتجاذب؛ لذلك هو لا يتمتع بمهارات سياسية – إدارية “عراقية” قادرة على التعامل مع أزمة محلية “عالم ثالثية” لها أبعادها السياسية والثقافية؛ ولذلك انتهى إلى مفاصلة حدّية مع الطرف الحكومي، لم تعد الحلول الوسط ممكنة معها. إنه أكثر “مثالية” من الدكتور مظهر، بالمعنى الفكري للمثالية لا القيمي.
مظهر صالح أكثر واقعية وبراغماتية رغم أخلاقياته العالية ورصانته العلمية، وأكثر اندماجاً في “السياق العراقي” واستيعاباً له؛ لذلك بدا أكثر سعياً للنأي بإدارة الأزمة عن النهج التصعيدي أو الثوروي على الرغم من الثمن الذي دفعه على مستوى الكرامة الشخصية بدخوله السجن، وهطول دموعه في أحد البرامج التلفزيونية مذكّراً بخدمته الطويلة للعراق، موظفاً عمومياً ملتزماً وحريصاً، في ظل الحروب والظروف الصعبة.
كان مظهر صالح يميل للمحافظة على مشكلة البنك المركزي في حدودها القانونية والإدارية والسياسية قدر المستطاع عوضاً عن تحويلها صراعاً بين الحق والباطل، أو إعطائها طابع “الملحمة الاقتصادية”! أو الصراع بين تطلعات الحرية ونزعات الاستبداد! بل تعامل كمسؤول عراقي يختلف مع مسؤولين عراقيين، لا عالم مع جهلة، أو مدنيّ مع إسلاميين، أو تكنوقراطيّ مع حزبيين، أو “ابن داخل” مع “وافدين من الخارج”، أو بغداديّ مع قرويين، ولم يؤدلج الصراع أو يُشخصنه.
مظهر صالح يبدو أكثر واقعية وبراغماتية رغم أخلاقياته العالية ورصانته العلمية، وأكثر اندماجا في "السياق العراقي" واستيعابا له؛ لذلك بدا أكثر سعياً للنأي بإدارة الأزمات عن النهج التصعيدي أو الثوروي على الرغم من الثمن الذي يدفعه على مستوى الكرامة الشخصية
السجين البريء
وعلى الرغم من بساطة وأريحية مظهر صالح وعلاقاته الطيبة بمختلف الأوساط الاجتماعية، النخبوية والشعبية، وهو ما يرجع ربما إلى نشأته البغدادية المنفتحة في أسرة من الطبقة الوسطى، فإنه لم ينجُ من سهام النقد ذات الطابع “الطبقي” في أطروحاته الأكاديمية إذ وُجّهت انتقادات لاستعمالاته الاصطلاحية في بحث له بعنوان “الطبقة الرثة والاستبداد الشرقي في العراق” لكن مظهر دافع عن نفسه، على صفحته بالفيسبوك، مؤكداً أن من يهاجمه “لم يسلك الطرق العلمية والفكرية في الجدل والاختلاف أو حتى النقد، بل سارع لتحريف ساذج لكلمة (الرثة) محاولاً إيهام غير المختصين ممن لا يعرفون متبنياتي الفكرية بأني ضد الفقراء” ناصحاً طلبته بعدم الرد على من “يُحرِّض” عليه ومبرراً استخدام كلمة “الرثة” بأنها جاءت “كتعبير اصطلاحي متداول في الأوساط الفكرية بعيداً عن المعنى اللغوي الضيق.
ولعل ممّا يعزز مصداقية مظهر في هذا السياق، بالإضافة إلى تراثه الأكاديمي وعلاقاته الاجتماعية، أنه في سجنه الأخير، كما يذكر الزميل الصحافي الشاب ليث محمد رضا في تغطية صحيفة “العالم” البغدادية للإفراج عن مظهر صالح، كان يقرأ على زملائه السجناء مقتطفات من كتاب “المگاريد” وهو، كما يصفه مؤلفه الكاتب العراقي محمد غازي الأخرس، “حكايات من سرداب المجتمع العراقي”، يتناول فيه، وبمقاربة ثقافية سردية، جوانب من قضايا “الطبقية” و”التمييز” في تاريخ العراق الحديث والمعاصر من خلال تسليط الضوء على حياة “المهمشين” من فقراء الجنوب العراقي الذين نزحوا إلى بغداد.
خلال فترة سجنه، التي استمرت عدة أسابيع قبل أن يُفرج عنه بكفالة مالية ثم يُبرَّأ لاحقاً من التهم المنسوبة إليه، حظي مظهر صالح، الخبير والأكاديمي، بتعاطف كبير وتأييد واسع من الأكاديميين والمثقفين والتيار المدني في العراق.
وهذه ليست المرة الأولى التي يزور فيها مظهر صالح المعتقل نزيلاً يجر أذيال الاتهامات الملتبسة، فقبيل وقت قصير من إطلاق سراحه قال “تجربتي الأولى مع الاعتقال ترجع لشهر أغسطس من العام 1971، حين تم اعتقالي في قصر النهاية بتهمة محاولة اغتيال صدام حسين، ولم أكن متورطاً في الحقيقة، لكن اعترف عليَّ بعض الأصدقاء الذين كانوا متورطين في محاولة الاغتيال، ولأني كنت شاباً مثقفاً اعتقد رجال الأمن آنذاك بأني المخطط للمحاولة، وفي هذه التجربة تكرر ذات الأمر، حيث يعتقد البعض أن البنك المركزي لم يكن فيه إلا أنا”.
وبعد أن لبث مظهر صالح في السجن بضعة أسابيع تم إطلاق سراحه بكفالة ليستمر في متابعة قضيته وحضور جلسات المحاكمة حتى جاءت لحظة التغيير في قمة هرم السلطة وتنحّي المالكي. وبعد وصوله لرئاسة الحكومة أصدر رئيس الوزراء حيدر العبادي أمراً بتعيين مظهر صالح مستشاراً اقتصادياً له. واعتبر كثيرون هذا القرار بمثابة رد اعتبار للرجل وللكفاءات الوطنية، وخطوة ملهمة ومبادرة مبشرة بدت من أبرز الخطوات أو الرسائل الإصلاحية للعهد الجديد.
|
سلم الرواتب الجديد
يجمع صالح في خطابه بين اللغة العلمية الأكاديمية الرصينة كأستاذ جامعي وبين النزعة الدولتية والانضباط البيروقراطي العريق كموظف حكومي مخضرم.
صالح اليوم في العقد السابع من عمره، مواليد 1948، وفي العقد الخامس من حياته الأكاديمية والمهنية، حصل على الدكتوراه في “اقتصاديات النقود والبنوك” من جامعة ويلز بالمملكة المتحدة عام 1989، وبعد كل هذه التجارب والخبرات، يجد نفسه اليوم في مواجهة جديدة بعنوان “سُلَّم الرواتب الجديد” الذي يُحمِّله مواطنون غاضبون مسؤولية إقراره في مجلس الوزراء.
يقول ميثم لعيبي، أستاذ الاقتصاد بالجامعة المستنصرية وأحد تلامذة مظهر صالح على صفحته بالفيسبوك “أتفهم كثيراً نقمة الموظفين على قرار تخفيض الرواتب فهو في النهاية يمس قوت أطفالهم.
لكن كيل الاتهامات والتسقيط لشخصيات وطنية واقتصادية مهمة كمظهر محمد صالح، لمجرد أنه دافع عن مسائل نعرف نحن الاقتصاديون صدقيتها وبداهتها، كتضخم وظائف الدولة وتضخم فقرة الأجور والرواتب والمخصصات ضمن الموازنة الجارية، والتي لا ينكرها عاقل، هو تعامٍ عن الحقائق لمجرد أن مصالحنا بدأت بالتضرر” داعياً إلى “رؤية أكثر وضوحاً وشمولاً، ولتعقل وموضوعية، عند مواجهة مثل هذه المنعطفات الحادة”.