مصر وتركيا وجها لوجه في القرن الأفريقي

عززت تركيا موقعها في منطقة القرن الأفريقي منذ سنوات، واستفادت من السيولة التي ضربت العديد من دولها، وكان وجودها المبكر في الصومال هو الأبرز من دون أن تتخلى عن توطيد علاقاتها مع دول أخرى، وأبرزها إثيوبيا.
وعندما بدأت مصر تتجه نحو هذه المنطقة وتطور علاقاتها مع الصومال، بعد خلافات عميقة مع إثيوبيا، كانت أنقرة قد نقلت علاقاتها إلى مستوى مرتفع مع غالبية دول القرن الأفريقي، وفي مجالات متباينة، عسكرية واقتصادية وسياسية وإنسانية، جعلتها أكثر قربا إلى مصر التي تنتمي إلى القارة الأفريقية بحكم الجغرافيا، ولها مصالح حيوية قديمة فيها، وشرعت منذ عقود طويلة في تمتين علاقاتها مع دولها وكان لها باع طويل مع الكثير منها، قبل أن يحدث تراجع ثم محاولة لتصحيح هذا الخطأ مؤخرا.
لفت حديث وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، خلال استضافة جيبوتي يومي السبت والأحد الماضيين فعاليات مؤتمر المراجعة الوزاري الثالث لشراكة تركيا – أفريقيا، انتباه الكثير من المراقبين، حيث تطرق الرجل إلى وحدة الصومال وحق إثيوبيا في الحصول على منفذ بحري
القاعدة التي يعمل بها الطرفان في ليبيا هي عدم المساس بمصالح الآخر وأن يعمل كل طرف بما يعظّم أهدافه ومصالحه فقط، وهي بروفة لما يمكن أن يحدث في منطقة القرن الأفريقي
وهي معادلة تتسق في الجانب الأول منها مع الموقف المصري، بينما تتعارض معه في الجانب الثاني، وكأن الوزير التركي تعمد التأكيد على أن التطورات الإيجابية التي تشهدها بلاده مع القاهرة لا تعني الانسجام الكامل بينهما، أو أن العلاقات القوية التي تربط أنقرة مع مقديشو سوف يتم تسخيرها لصالح مصر في خلافها مع إثيوبيا، فقد أمسك هاكان فيدان العصا من منتصفها ليحافظ على معادلة متوازنة لتركيا في منطقة القرن الأفريقي، بحيث لا يتم توظيفها لصالح أحد ممن تحتفظ بلاده بعلاقات جيدة معهم، وبالتالي تخرج أنقرة بنعومة سياسية من إشكالية حصرها في زاوية ضيقة بين القاهرة وأديس أبابا ومقديشو.
ينطوي تطبيع العلاقات بين مصر وتركيا على اتفاق ضمني تحافظ بموجبه كل دولة على مصالح الأخرى، أو بمعنى أدق لا تعتدي عليها أو تضر بها، وظهرت تجليات هذه المسألة في ليبيا، وهي الدولة التي كادت تشهد أول تصعيد عسكري معلن بينهما عندما تمددت أنقرة في طرابلس وغرب ليبيا، ثم مدت بصرها إلى بنغازي وشرق ليبيا، وتمت معالجة التصعيد بين البلدين بخشونة أولا، ثم جاء الهدوء لمنع حدوث صدام بينهما.
وبعد التحسن الملحوظ في العلاقات وحل بعض الملفات الخلافية وتنحية أخرى جانبا، توقعنا أن تشهد ليبيا أول ثمرة للتعاون الجديد بين القاهرة وأنقرة، لكن حتى الآن لم تظهر ملامح محددة لذلك، وبدت القاعدة التي يعمل بها الطرفان في ليبيا هي عدم المساس بمصالح الآخر، بمعنى أن يعمل كل طرف بما يعظّم أهدافه ومصالحه فقط، وهي بروفة لما يمكن أن يحدث في منطقة القرن الأفريقي خلال الفترة المقبلة.
تعلم مصر أن الغاية الحقيقية من التطبيع مع تركيا ليست التعاون في القضايا الإقليمية أو الدخول في تحالفات إستراتيجية، لأن البون بين نظامي الحكم في البلدين لا يزال واسعا، وإن اعتقد البعض أن التقارب الظاهر كفيل بطي صفحة الماضي وبدء صفحة جديدة ناصعة، فما تريده القاهرة في أي منطقة هو الهدوء والأمن والاستقرار، باعتبار ذلك الرافعة التي تحافظ على مصالحها وتمكنها من التفاهم مع دول عدة، بينما تتغذى السياسة الخارجية التركية على التوترات والنزاعات والصراعات، فكل الدول التي طورت معها علاقاتها جاءت من هذه القنوات.
فوجودها العسكري في الصومال وتمديده إلى مجالات أخرى خرج من رحم الحرب الأهلية في ربوعه، كذلك الوضع في ليبيا، ما يعني أن البون بين القاهرة وأنقرة لن يمكنهما من العمل معًا في منطقة القرن الأفريقي أو غيرها، وهو ما يشير إلى أن كل بلد يعمل بالطريقة التي يراها مناسبة لمصالحه.
وتكمن الخطورة في أن هذا النوع من التوجهات سوف يفضي إلى خلافات عميقة في لحظة معينة، ربما تظل مكتومة فترة لأن كليهما يريد الحفاظ على المستوى الراهن من العلاقات الدافئة وعدم الدخول في ما يعكر صفوها، لكن المساعي التي شرعت تركيا فيها لعقد مصالحة بين الصومال وإثيوبيا، والمتعثرة حتى الآن، سوف تؤثر على تقديرات القاهرة، والتي تعتمد على الشرخ الحاصل بين البلدين.
التوجس المصري العام ينبع من عدم وضوح السياسة التركية في أحيان كثيرة، فهي تبطن غير ما تعلن في بعض الأحيان، وعلى استعداد لنسج علاقات مع دول متناقضة، في سبيل الوصول إلى أهدافها
ونجاح الوساطة التركية قد يؤدي إلى تغير في موقف مقديشو من أديس أبابا، ومهما كان شكل النجاح فهو سيوفر قدرا من التهدئة بينهما، ولا حاجة للصومال إلى مساعدة عسكرية كبيرة من مصر، لأن هذه المساعدة تسير في طريق عكس الاتجاه الذي تريده المصالحة.
ويشير الوصول إلى هذه النقطة إلى أن هناك اتفاقا حول رغبة إثيوبيا في الحصول على منفذ بحري عن طريق إقليم أرض الصومال، وهو ما أشار إليه هاكان فيدان ضمنيا، الأمر الذي يزعج مصر، لأن تحركها حيال تطوير العلاقات مع الصومال في جزء كبير منه جاء بسبب اعتراضها على حصول أديس أبابا على منفذ بحري يوفر لها قاعدة عسكرية في جنوب البحر الأحمر، ما سيمثل تهديدا إستراتيجيا لها لاحقا، وإن كان وزير خارجية تركيا تحدث عن حق إثيوبيا في أن يكون لها منفذ بحري من دون إشارة واضحة إلى قاعدة عسكرية.
وفي الحالتين تقلق القاهرة من الوجود الإثيوبي لأنه يقوم على اتفاق مع إقليم لا يزال ضمن الدولة الصومالية قانونيا، وهذا الإقليم يتشبث باستقلاله عنها، ما يشي بأن المعادلة التي تريد تركيا تمريرها من خلال وساطتها لن تتفق مع المصالح المصرية.
ينبع التوجس المصري العام من عدم وضوح السياسة التركية في أحيان كثيرة، فهي تبطن غير ما تعلن في بعض الأحيان، وعلى استعداد لنسج علاقات مع دول متناقضة، في سبيل الوصول إلى أهدافها، ومهما توسع نفوذ أنقرة في القرن الأفريقي لن تتمكن القاهرة من الاعتماد عليه، لأن الفحوى النهائية في الأجندة التركية لن تتسق مع ما تريده مصر، التي من الأفضل لها أن تتعاون مع دول مثل السعودية والإمارات اللتين لهما وجود في هذه المنطقة.
ويمكن التفاهم مع هاتين الدولتين على قواسم مشتركة متقاربة، فالأولى تتشارك مع مصر في الإطلالة الطويلة على البحر الأحمر ومن مصلحتها الحفاظ على الهدوء في جنوبه، والثانية لها علاقات وطيدة مع إثيوبيا وغيرها تمكنها من تقريب الرؤى مع مصر وفقا لما يوفر هدوءا للجميع ويحافظ على مصالحهم، بينما كل تحركات تركيا في المنطقة يمكن أن تتعارض مع ما ستريده القاهرة من الصومال وإثيوبيا في المستقبل.