مصر والهجرة غير الشرعية وسد النهضة

اللجوء إلى أوروبا يأتي متأخرا لأن هناك دولا مثل إيطاليا لها مساهمات كبيرة في تشييد السد ولن تردعها مناشدة أو تجبرها استغاثة على التضحية بما تراه من أهمية لمصالحها مع إثيوبيا.
الجمعة 2024/10/18
اللجوء إلى أوروبا أتى متأخرا

ربط رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي في حديث له قبل أيام بين الهجرة غير الشرعية وسد النهضة الإثيوبي. وهو ربط يحتاج إلى تفكيك لفهم مغزاه، لكن ليس بالضرورة يحقق أهدافه السياسية، حيث أراد مدبولي حث المجتمع الدولي على التدخل لصالح بلاده لحل أزمة السد المستعصية، ولم يجد وسيلة للضغط على المجتمع الدولي للقيام بهذا الدور سوى التلويح بأنه سوف يؤدي إلى شح كبير في المياه، وبالتالي تقل الزراعة ولن يجد العاملون بها مفرا من هجرها والذهاب إلى الحدود المصرية، ومنها ركوب سفن بدائية تقودهم إلى دول في أوروبا في موجات هجرة غير شرعية.

لا أعلم لماذا سلك رئيس الحكومة هذا الطريق لتهديد أوروبا بورقة حظيت مصر بإشادة كبيرة حولها، لدورها في عمليات مكافحة الهجرة غير الشرعية، فالمثل الذي استخدم للتدليل على معاناتها المحتملة من سد النهضة لن يحرك شعرة في رأس أوروبا بهذه الطريقة، وسيتم فهمه على أنه تهديد أو محاولة للابتزاز قد تُفقد قضية حيوية أحد جوانبها المهمة، وهي أن حقوق مصر يجب الحصول عليها بالمصالح المتبادلة مع إثيوبيا، وإذا كانت هذه الوسيلة فشلت على مدار أكثر من عشر سنوات والمجتمع الدولي لم يتدخل فيها، يصعب أن يتدخل بعد أن اكتمل بناء السد وبدأت عملية تشغيله.

◄ كان يجب على مصطفى مدبولي وهو يتحدث أمام مؤتمر خاص بالمياه حضره مسؤولون من دول مختلفة مراعاة نوعية المتلقي المتخصص، والذي يعرف الكثير عن أزمة سد النهضة وشح المياه في العديد من دول المنطقة

كما أن المنطقة مليئة بالصراعات وغالبية شعوب دولها تريد الزحف نحو أوروبا بصورة شرعية أو غير شرعية، ومصر لا تزال خارج بؤر التوتر في المنطقة، وعرفت بأنها أحد المفاتيح التي يُعول عليها في المساعدة على توفير الأمن والاستقرار في المنطقة، ويصعب أن تتحول إلى منغص، لأنها سوف تفقد أحد أهم مزاياها بالنسبة إلى أوروبا، والتي وفرت لها حوافز واستثمارات سخية الفترة الماضية، وهناك وعود بالمزيد منها، طالما أنها تقوم بدورها في تهدئة الأزمات الإقليمية المتشعبة، وفي مقدمتها ضبط سواحلها، وعدم السماح لتدفق الهجرة غير الشرعية.

برعت مصر في هذا البعد خلال السنوات الماضية دفاعا عن أمنها القومي ومكافحة الإرهاب أولا، وهو ما وجد فيه الاتحاد الأوروبي فائدة كبيرة لدوله، ممثلة في تجفيف منابع الهجرة غير الشرعية عبر السواحل المصرية، وإذا جرى التفريط في ذلك بحجة الضغوط المترتبة عن شح المياه، فمصر التي استوعبت أكثر من عشرة ملايين لاجئ ونازح من جنسيات مختلفة ربما تخسر ما كسبته من تعاطف أوروبي، ومساعدات تعينها على تخفيف حدة ما يترتب عن بقاء هؤلاء على أراضيها.

وهي ورقة ظلت تفاخر بها مصر وتمنحها مكانة إنسانية، يجب أن تحافظ عليها ولا تفقدها سياسيا، لأن التدخل في أزمة سد النهضة لا يحظى بإرادة دولية قوية، بعدما وضع مجلس الأمن الدولي الأزمة في حوزة الاتحاد الأفريقي.

تعاني مصر بالفعل من أزمة مياه، واستخدمت طرقا عديدة للتوصل إلى حل مع إثيوبيا وأخفقت حتى الآن، ولم تجد مساعدة حقيقية من أوروبا أو غيرها للخروج باتفاق ملزم ومنصف، ولن تجد ذلك في المستقبل وسط التباعد الكبير في رؤى الطرفين، ووجود دول تدعم موقف إثيوبيا في حقها ببناء سد أو أكثر لأهداف تنموية والضرب عرض الحائط بالقوانين الدولية، فهناك دول ترى في سد النهضة أكثر من كونه مشروعا تنمويا، وتعتقد أن فرض أديس أبابا إرادتها السياسية يمكن أن يكون مثلا يحتذى به في أنهار أخرى بعيدة، في الصين مثلا، تواجه تعقيدات مشابهة.

مناشدة أوروبا للتدخل خوفا من تدفق موجات من الهجرة غير الشرعية، لم تجد أصداء أو تجاوبا معها، وبدا النداء (الاستغاثة) كاشفا عن قلة حيلة لدى الحكومة المصرية، وربما يضعف أو يقلل هذا الاتجاه من أهمية المسارات المتعددة التي سلكتها القاهرة للضغط على أديس أبابا في منطقة القرن الأفريقي.

كما أن اللجوء إلى أوروبا يأتي متأخرا، لأن هناك دولا مثل إيطاليا لها مساهمات كبيرة في تشييد السد، ولن تردعها مناشدة أو تجبرها استغاثة على التضحية بما تراه من أهمية لمصالحها مع إثيوبيا، وكان يجب أن تكون التحركات على هذا المسار منذ سنوات، عندما وجدت فرصة حقيقية لتغيير مواصفات السد بما لا يتعارض مع المصالح المصرية.

الواضح أن إثيوبيا تتعامل مع سد النهضة باعتباره مشروعا قوميا، وأي تنازل في المواقف التي أعلنتها يعني تراجعا ورضوخا للمطالب المصرية، ما يجعل فرص الضغط عليها بالإغراءات أو الأدوات الخشنة محدودة من أوروبا أو غيرها، الأمر الذي تعلمه مصر، والتي يبدو أن رئيس حكومتها لجأ إلى الربط بين شح المياه والهجرة غير الشرعية لتبرئة ساحة بلاده من أي انفلات في المستقبل.

◄ المنطقة مليئة بالصراعات وغالبية شعوب دولها تريد الزحف نحو أوروبا، ومصر لا تزال خارج بؤر التوتر في المنطقة، وعرفت بأنها أحد المفاتيح التي يُعول عليها في المساعدة على توفير الأمن والاستقرار في المنطقة

فضلا عن محاولة إيجاد وسيلة لجر أوروبا إلى الانخراط في أزمة سد النهضة التي ازدادت تعقيدا بعد أن تباعدت المسافات بين القاهرة وأديس أبابا، وتوقفت المفاوضات بينهما، ولم تعد هناك فرصة جادة لاستئنافها بعد أن حققت إثيوبيا أهدافها المعلنة، وليس أمام مصر سوى التسليم بالأمر الواقع.

لم تقبل مصر بهذه النتيجة، بدليل اللجوء إلى المجتمع الدولي مرة أخرى، والبحث عن قضية رمزية تلفت الأنظار للأزمة وما سوف يترتب عنها من مخاطر، واختارت ملف الهجرة غير الشرعية الحيوي، وسواء أكانت الحجة المستخدمة والربط الذي ساقه رئيس الحكومة المصرية منطقيا أم لا، ففي كل الحالات أراد منه التنبيه إلى أن ملف سد النهضة لا زال مفتوحا، وأن تشييده والبدء في تشغيله لا يعنيان القبول به، وسوف يظل الملف أزمة مزمنة في المنطقة يمكن أن تترتب عنها تداعيات خطيرة، في شكل تدفق لموجات جديدة من الهجرات غير الشرعية أو فتح الباب للمزيد من الأزمات الإقليمية التي تهدد الأمن والسلم الدوليين.

من هذه الزاوية تكون رؤية مصطفى مدبولي منطقية ومقبولة، وكان يجب وهو يتحدث أمام مؤتمر خاص بالمياه حضره مسؤولون من دول مختلفة مراعاة نوعية المتلقي المتخصص، والذي يعرف الكثير عن أزمة سد النهضة وشح المياه في العديد من دول المنطقة، ولا يعنيه ملف الهجرة غير الشرعية، فهو ملف أمني سياسي اقتصادي اجتماعي، يحدث نتيجة روافد عدة، قد تكون المياه من بينها، لكنها ليست الرافد الوحيد، لأن انتشار الصراعات والنزاعات والحروب يتحمل الجانب الأكبر.

وجميعها تعد المحرك الأول للهجرة في السنوات الماضية، والتي تحولت إلى أزمة هيكلية يتم البحث لها عن حلول متنوعة لمن استقروا في أوروبا منذ فترة، ولذلك لا تستطيع القارة العجوز تحمل هجرات جديدة مكثفة.

9