مصر والأزمة الليبية.. تصعيد فهدوء ثم قلق من انفراط عقد التسوية

مصر تسعى للإمساك بمختلف أوراقها في ليبيا، وأن تظل بمثابة العنصر المحوري في أيّ تسوية. ولذلك فهي تدعم الانتخابات على أمل أن تفضي إلى إنهاء الأزمة وكشف حجم كل تيار، وخاصة التيار الإسلامي الذي يهيمن على الغرب. وتراهن القاهرة في استمرار دورها على قنواتها المفتوحة مع مختلف القوى الدولية الفاعلة في ليبيا.
وفر التحرك المصري على مسارات متوازية في الأزمة الليبية جانبا من الأمان لها وأوقف سيناريو التصعيد والتلويح بالجاهزية العسكرية، وجاءت حصيلة المحادثات التي أجرتها مع جميع ألوان الطيف السياسي مؤخرا جيدة، واختفت نبرة اتهامها بتركيز اهتمامها على منطقة الشرق على حساب الغرب.
وفر هذا التوازن درجة أعلى من الحضور السياسي لمصر وأبعد شبح التدخل العسكري، وهو ما وجدت فيه بعض القوى المتركزة في طرابلس وسيلة لتطوير العلاقات مع القاهرة كمدخل قد ينفي وضعها في سلة جهات تدعم المعسكر التركي.
وقّعت حكومة الوحدة الوطنية حزمة من الاتفاقيات الاقتصادية السخية مع مصر للإيحاء بأنها لا تخدم الأجندة التركية، وصبت معظم زيارات المسؤولين في السلطة التنفيذية ومناقشاتهم في الغرض ذاته تقريبا، الأمر الذي تجاوبت معه القاهرة لأن ابتعادها عن طرابلس لفترة هيأ الساحة للمزيد من توغل أنقرة في غرب ليبيا.
لم تنحصر الخطوط المصرية المتوازية مع القوى السياسية على ليبيا، فقد أجادتها مبكرا في تعاملها مع القوى الكبرى، حيث بدت منفتحة على كل من فرنسا وإيطاليا، باعتبارهما المعسكرين الأبرز في الأزمة، ومنفتحة أيضا على كل من روسيا والولايات المتحدة، وبين هذه القوى ظهرت جهات مثل ألمانيا وبريطانيا وزادت من تفاعلها، وانفتحت عليهما القاهرة أيضا.
أسهمت مسألة الانفتاح في تسهيل مهمة مصر في الحوار مع القوى الدولية، لكن لم تكن على المستوى نفسه على الصعيد الإقليمي، لحساسيات مع بعضها ولحسابات خفية مع البعض الآخر، وجرى قطع مسافة جيدة مع كل من تونس والجزائر كدولتي جوار مهمتين.
بقيت المشكلة في تركيا التي تراوغ وتناور وتنتشر وتتمدد، بينما مصر تراقب وترصد وتنزعج وتقلق، ووضعت خططا عدة للتعاطي معها، بدءا من الاستعداد للصدام وحتى التفاهم معها، وقد بدأ الخيار الثاني يحظى بقبول من الطرفين في الآونة الأخيرة.
تخطت القاهرة مستوى التصعيد الحاد بسبب الوجود التركي الكثيف وامتصت الكثير من صدماته بوسائل متعددة، وتنتظر أن تحقق التوجهات الدولية نتيجة مرضية لوضع حد لانتشار القوات الأجنبية والمرتزقة، أو تؤدي المحادثات مع أنقرة إلى صيغة لإعادة التموضع والتوصل لقواسم مشتركة حول ليبيا تحول دون تجذر الخلاف، وساعدها الحفاظ على وقف إطلاق النار الفترة الماضية من التعويل على إمكانية الوصول إلى تسوية تضع حدا لأزمة ممتدة تمثل تهديدا للأمن القومي المصري.
لا تعكس الرسائل الداخلية والإقليمية والدولية الداعية إلى الحل وجود تطمينات كافية للقاهرة، حيث بدأت تشعر بالقلق من ارتفاع صوت الرافضين لإجراء الانتخابات في موعدها، وتبدو غير مرتاحة للإشارات الخاصة بدعمها من دون اتخاذ خطوات عملية، وتخلو مما يساندها من ضغوط تدفع القوى المتلكئة للقبول بها بلا تأخير.
قدمت الإدارة الأميركية جملة من الإشارات السياسية والأمنية الأيام الماضية أكدت استعدادها للمزيد من الانخراط في الأزمة والتدخل بشكل أكثر إيجابية، ما جعل حكومة الوحدة الوطنية ومجلس الدولة ومعظم القوى الرافضة للانتخابات تضبط سلوكها نسبيا وتخفف من لهجة الممانعة المرتفعة، وإذا حافظت واشنطن على هذا المستوى يمكن تجاوز الكثير من العقبات اللوجستية الراهنة.
تنظر القاهرة إلى الانتخابات كوسيلة للتسوية وليست غاية في حدّ ذاتها، وهنا يظهر أحد عناصر التوتر إذ تعتبر الكثير من القوى الدولية أن الوصول إلى محطة الانتخابات مهم لتأكيد رغبتها في تسوية الأزمة بعيدا عن النتيجة التي يمكن أن تقود إليها، حتى لو كانت سلبية وتعيد للبلاد شبح الحرب على نطاق واسع.
بينما ترى الحكومة المصرية في الانتخابات وسيلة لطي الصفحة القاتمة التي لازمت ليبيا على مدار السنوات الماضية، ومن الضروري أن تتم الخطوة وفقا لمعايير محددة وضوابط قانونية تدعمها وبلا استثناءات تبعد عناصر لصالح أخرى، وفي أجواء تتوافر لها درجة مرتفعة من الهدوء، وتضمن تطبيق نتائجها على الأرض، وهو ما يتطلب وجود قوة أمنية وعسكرية نظامية قادرة على ضبط الهياكل المنفلتة.
استغرقت القاهرة وقتا طويلا في الحديث عن ضبط المنظومة الأمنية وتوحيد المؤسسة العسكرية، والتي كلما قطعت خطوة حدثت لها انتكاسة من جانب جهات متضررة من التوجهات الساعية إلى وضع الحصان أمام العربة، لأن العكس، أي وضع العربة أمام الحصان قاد إلى عملية تسوية مشوهة لا تريد مصر إعادتها مرة أخرى من خلال إجراء انتخابات أركانها الرئيسية غير مكتملة.
انتهى زمن عقد الانتخابات للتباهي بأن ليبيا على أعتاب مرحلة ديمقراطية واعدة، وأن النظام السابق تمكن من وأد الحياة المدنية تماما، فقد انهار هذا الخطاب تقريبا واستهلك أغراضه السياسية مع التطورات المتسارعة في أفغانستان وتراجع حظوظ قوى الإسلام السياسي بالمنطقة، والتي جاء الدور على ليبيا لتقليصها.
تعتقد القاهرة أن الانتخابات المقبلة فرصة مناسبة لكشف حقيقة الدور الذي يلعبه التيار الإسلامي في ليبيا وضبط عجلة التسوية، إذا جرت وفقا لمعايير نزيهة وتجنبت تكرار الأخطاء السابقة والابتعاد عن اختلاق كيانات هشة يتم منحها سلطة اتخاذ القرار.
وجد الملتقى السياسي دعما من بعثة الأمم المتحدة وباركته قوى دولية حتى بات أداة لتكريس الانقسام، وزاد الأجسام السياسية التخليقية التي تتصارع للاستحواذ على مفاصل السلطة، وتحول إلى أحد المنغصات التي يمكن أن تعرقل إجراء الانتخابات، كما تحول من قبله المجلس الأعلى للدولة من وظيفته الاستشارية لأداة تتدخل في كثير من القضايا المصيرية، وهي المعادلة التي أعاقت الكثير من مبادرات التسوية.
أخذت معالم القلق المصري تتسع مؤخرا خوفا من تحويل فرصة الانتخابات من منحة إلى محنة، حيث ضاعفت بعض الأطراف الليبية من وضع العراقيل الأمنية والسياسية، تارة بتحريض الميليشيات على الاشتباكات في العاصمة، وأخرى عن طريق حث المواطنين على النزول للشارع والإمعان في زيادة تقسيمه بين مع وضد، وثالثة بمنع التفاهم حول قاعدة دستورية تُجرى بموجبها الانتخابات.
يمثل تخطي موعد الانتخابات في الـرابع والعشرين من ديسمبر المقبل من غير إجرائها أو إتمامها بصورة مشوهة لتبرئة المجتمع الدولي، أكبر انتكاسة جديدة للأزمة الليبية، لأنها تعيدها إلى المربع الأول وتنهي مرحلة التفاؤل التي سادت الفترة الماضية، وقد تبدأ القاهرة في البحث عن سيناريوهات للتعامل مع هذا الواقع الذي تجاوزت جملة من تفاصيله خلال فترة الهدوء التي أعقبت اتفاق وقف النار في أكتوبر من العام الماضي.
يأتي قلق مصر من انفراط عقد التسوية والسباحة ضد التيار المناهض لها، إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه، فعندما ظهرت بعض الملامح الإيجابية تمكنت من إعادة صياغة رؤيتها في ليبيا على قاعدة سياسية أبعدتها عن خيار التدخل العسكري الذي لا يروق لها كثيرا حيث يحمل تكلفة باهظة لها.
تعد العودة إلى هذا الطريق غير مستبعدة في ظل الأوضاع الراهنة، وهو ما دفع القاهرة للتحرك على مستويات مختلفة لأن قضيتها أصبحت تتجاوز الأمن والاستقرار في شرق ليبيا الذي تحقق جزء كبير منه وتصل إلى تعميمه في جميع ربوع البلاد، حيث تجد هناك فرصة مواتية يكفي عدم استثمارها لعودة شبح التقسيم إلى ليبيا.