مصر مع التحالفات الاقتصادية وضد العسكرية

تفضيل التعاون الاقتصادي يظل صيغة مأمونة بالنسبة إلى القاهرة ويتسق مع قناعاتها لأنه يسهم في تخفيف الضغوط الناجمة عن تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية بينما على العكس يمثل التعاون العسكري حملا مضاعفا.
الخميس 2022/06/30
تعاون ثنائي وثيق

تذهب مصر للمشاركة في قمة جدة مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي الست والأردن والعراق والرئيس الأميركي جو بايدن منتصف يوليو المقبل وقد استمعت إلى جميع حلفائها الخليجيين ماذا بوسعهم أن يقدموا لها من دعم اقتصادي.

واستمعت أيضا إلى الند القطري الذي خفّف من غلواء عدائه للنظام المصري وتخلّى عن الكثير من توجهاته المناوئة، وباتت هناك رؤية للقمة من قبل جميع الأطراف بعد أن بدأ زمن “مسافة السكة” يتلاشى من الخطاب العام، فماذا يمكن أن تقدم مصر؟

كشفت نتائج اللقاءات التي عقدها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع قادة دول الخليج والأردن والعراق الفترة الماضية عن انحياز لتطوير التعاون الاقتصادي بما يسهم في تخفيف الضغوط التي تتعرض لها البلاد عقب تصاعد حدة الانعكاسات السلبية لانتشار فايروس كورونا، ثم تداعيات الأزمة الأوكرانية وما نجم عنهما من تأثير كبير على الحالة الاقتصادية.

سواء اتخذ التعاون الاقتصادي الكبير شكلا ثنائيا أو جماعيا، ففي الحالتين ما يهمّ القاهرة أن يسهم في تحاشي اتساع نطاق الأزمات الاجتماعية، وما يهم الدول الخليجية بشكل خاص أن تكون ثمة رؤية واضحة لزيادة الاستثمارات والتدفقات المالية لدعم القيادة المصرية.

تمخضت زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى القاهرة عن توقيع حزمة من الاتفاقيات، ولم تعلن دول خليجية أخرى عن أجندة محددة يمكن التعويل عليها لحدوث انفراجة كبيرة مقبلة في الاستثمارات الموجهة إلى مصر.

القاهرة تعلم أن أيّ ترتيبات جماعية في المنطقة لن يكتب لها النجاح دون مشاركتها، وإن لم تستطع وقفها فهي تملك من المقومات ما يساعد على تفشيلها

وكل ما جرى يندرج تحت عنوان حسن النوايا انتظارا لما يمكن أن تتمخض عنه قمة جدة – بايدن ومعرفة المنظومة التي يلتفّ حولها المشاركون فيها ومدى قدرتهم على التفاهم حول روابط جديدة تعزز التعاون الإقليمي.

يتفق المتابعون لملامح القمة على وجود تفاوت في التقديرات، فالرئيس بايدن يحمل أجندة يريد أن يغيّر بها وجه الشرق الأوسط ويعيد صياغة أوضاع المنطقة بما يتفق مع مصالح بلاده، ودول الخليج تكتنفها هواجس تقترب أو تتباعد من الرؤية الأميركية لكنها غير منسجمة في بعض تفاصيلها، كذلك الحال بالنسبة إلى مصر والأردن والعراق.

نجم عن عمليات جس النبض التي قامت بها مصر من خلال الاجتماعات المتعددة للرئيس السيسي أنه يميل إلى التركيز على توطيد علاقاته مع جميع دول الخليج بلا استثناء، والحفاظ على تحالفه الوثيق معها، خاصة السعودية والإمارات من منطلق مساهماتهما القوية في أصعب الفترات التي واجهتها الدولة ورغبتهما في التمهل وعدم الانجراف وراء تحالف دفاعي لا تزال الكثير من أهدافه غير واضحة المعالم.

تعلم القاهرة أن أيّ ترتيبات جماعية في المنطقة لن يكتب لها النجاح دون مشاركتها، وإن لم تستطع وقفها فهي تملك من المقومات ما يساعد على تفشيلها.

ولذلك بدت قاسما مشتركا في غالبية التحركات منذ الإعلان عن جولة بايدن في المنطقة، وانخرطت في حوارات عدة مع الجهات المعنية بقمة جدة، باعتبارها جهة وازنة لترجيح الكفة أو كسرها.

تكمن المشكلة في كيفية توصل مصر إلى رؤية متقاربة مع حلفائها الحاليين والمحتملين، وهي مسألة غاية في الصعوبة لأن المسافات لا تزال بعيدة في الشق العسكري، واختارت القاهرة منح أولوية للبعد الاقتصادي لأنه يمثل حاجة داخلية قصوى لها وهناك إمكانية كبيرة للتوصل إلى أطر ثنائية وإقليمية بشأنه يمكن تطبيقها، عكس البعد العسكري الذي يواجه تحديات وربما لا يصمد كثيرا أمام مواجهتها.

تدخل مصر قمة جدة وهي مقتنعة أن التعاون الاقتصادي السبيل الذي يمكن تسويقه حاليا وقد يغير وجه المنطقة لاحقا، ويتيح الفرصة لأشكال مختلفة من التعاون في مجالات أخرى عندما تنضج الأمور، وهناك بيئة مناسبة لتدشينه، حيث تطورت العلاقات الاقتصادية بين مصر ودول الخليج، ونمت مع إسرائيل، وشهدت تقدما مع الأردن والعراق في ظل ما تردد عن مشروعات تضم الدول الثلاث مؤخرا.

هيأت مصر بنيتها الأساسية لاستيعاب المزيد من الاستثمارات الأجنبية من دون تفرقة بين عربية وغير عربية، وتراهن على تحقيق عوائد كبيرة من خلال علاقاتها التعاونية بشأن غاز شرق البحر المتوسط، والذي يمكن أن يمثل قاسما مهما بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة ودول خليجية وأوروبية عديدة، ما يجعله مدخلا جيدا لتسجيل الهدف الأول لصالح أيّ مشروع اقتصادي إقليمي منتظر انطلاقه.

المشكلة تكمن في كيفية توصل مصر إلى رؤية متقاربة مع حلفائها الحاليين والمحتملين، وهي مسألة غاية في الصعوبة لأن المسافات لا تزال بعيدة في الشق العسكري

كشفت حوارات القيادة المصرية في الأيام الماضية عن عدم استعداد للتعاون في أطر ذات أبعاد عسكرية وما يمكن أن تقبله لا يتجاوز توسيع الأطر الأمنية للتعاون الخاصة في مجال مكافحة الإرهاب، حيث شهدت الفترة الماضية تقدما ضاعف من عملية تبادل المعلومات وقلل من مخاطر التهديدات التي تمثلها الجماعات المتطرفة العابرة للحدود.

يتأسس تجميد الأفكار ذات المكونات العسكرية أو تأجيلها أو استبعادها على قاعدة مبدئية سنتها القاهرة منذ زمن بعيد وتتعلق برفض التحالفات من هذا النوع.

وتتزايد عوامل الرفض في حالة انخراط إسرائيل فيها لأن مردوداتها سلبية على القضية الفلسطينية وتفرّغ الدور العربي من مضمونه في مطالبة الولايات المتحدة وإسرائيل بتسوية سياسية مقبولة وتوحي في محصلتها بالتنازل مجانا عن القضية الأمّ.

إذا كانت الحالة المزرية التي وصلت إليها الفصائل الفلسطينية والانقسامات أضاعت جزءا كبيرا من قضيتهم، فإن الخطاب السياسي لغالبية الدول العربية، وفي مقدمتها مصر، لا يستطيع التنصل منها حاليا، لأن هناك اعتبارات تتعلق بالأمن القومي المباشر، والقبول بتحالف عسكري يلغي هذا المنحى لو تعرض لتهديدات حقيقية.

تعلم القاهرة أن القبول بتحالف عسكري في الوقت الراهن يضم إسرائيل يضعها أيضا في مواجهة مع إيران، وهي التي حرصت دوما على تجنب الصدام معها، وربما تكون زيارة الرئيس السيسي إلى سلطنة عمان الاثنين تنطوي على رسالة طمأنة تقوم مسقط بتوصيلها إلى طهران وتفيد في استمرار المبدأ الذي رسّخته مصر في السنوات الماضية ويعتمد على صيغة قوامها “لا ضرر ولا ضرار” مع إيران.

يظل تفضيل التعاون الاقتصادي صيغة مأمونة للقاهرة ويتسق مع قناعاتها لأنه يسهم في تخفيف الضغوط الناجمة عن تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية، بينما على العكس يمثل التعاون العسكري حملا مضاعفا، حيث يستلزم تغييرا في البنية الأساسية لعقيدة الجيش المصري التي تعتمد على استقلاله ورفضه لفكرة الأحلاف والحفاظ على هويته القومية، والتي تلقى هوى من بعض الدول الخليجية التي تخشى أن يجرها الاندفاع خلف تحالفات عسكرية ممتدة إلى مغامرات تؤثر على التركيبة الداخلية المستقرة.

9