مصر ظالمة ومظلومة في غزة

على مصر أن تنهض للدفاع عن الأمة وتتجاهل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها استجابة لنداءات تصدر ممن يضعون أياديهم في مياه باردة ولم تمسهم السخونة التي يواجهها فلسطينيو غزة.
الاثنين 2023/10/30
مصر مطالبة بخوض حرب لم يستشرها فيها أحد

في كل مرة تشتعل فيها الحرب على غزة أو يواجه الفلسطينيون مأزقا حادا ترتفع أصوات قوى وجهات وجبهات وشخصيات عربية صوب التنديد بموقف مصر أكثر من غيرها من الدول العربية الإسلامية، وتوجه إليها اللعنات والاتهامات المعلّبة.

يمكن أن يكون هذا الأمر مفهوما في سياق أنها أكبر دولة عربية في المنطقة وعلاقاتها وطيدة بالقضية الفلسطينية، حربا أو سلما، لكن الخطورة هذه المرة أنه مطلوب منها أن تحمل كل خطايا حركة حماس التي هاجمت إسرائيل انطلاقا من حسابات سياسية وأيديولوجية خاصة بها وبحلفائها وليس نيابة عن الأمة.

زادت الانتقادات الأيام الماضية على القاهرة، بعضها كان مقصودا بغرض النيل منها معنويا، والبعض الآخر جاء مدفوعا بالحماس العربي والروابط الدينية. وكلاهما خرج عن السياق الذي نشبت فيه الحرب والظروف التي أحاطت بها؛ فما قامت به الذراع العسكرية للحركة الفلسطينية (عزالدين القسام) مثّل هزة لإسرائيل ودول غربية داعمة لها، وكسر الكثير من الصور النمطية التي حرصوا على ترسيخها في الذهن العربي.

مصر مظلومة لأنها تبحث عن تسوية عادلة للقضية الفلسطينية تحافظ على ثوابتها، بينما هناك دول عربية انجرفت نحو إسرائيل بلا اعتبار لهذه النقطة المحورية أو وضع شرط لتسويتها

لا يجد البعض من العرب والمنتمين إلى الحركات الإسلامية أمامهم سوى مصر لتوجيه سهامهم إليها لأسباب جغرافية وتاريخية وسياسية، أو تقديرات مغلوطة، وهذا اتجاه قد يخفف الضغوط عن دولهم وتياراتهم، حيث يوضع العبء كاملا على كاهل القاهرة، ويتم إخفاء الجوانب الأخرى من الأزمة، فعندما تضيق الأرض على الفلسطينيين بسبب تعرضهم لقصف متواصل لا يجدون غير مصر يطالبونها باستيعابهم وتوطينهم في صحراء سيناء، مع أن هناك صحراء ممتدة في دول عربية أخرى أكثر أمانا وفراغا لا أحد يتحدث عنها من قريب أو بعيد.

أصبحت مصر ظالمة ومظلومة في بعض وسائل الإعلام العربية، وعلى كثير من منصات التواصل الاجتماعي. ظالمة لأنها لم تدخل الحرب نيابة عن الحركة الفلسطينية بذريعة الدفاع عن شرف الأمة برمتها، ولم تقم بإدخال المساعدات عنوة لسكان غزة عبر معبر رفح بلا موافقة إسرائيل وممانعة عدد من القوى الدولية التي تقف خلفها، وتتعرض الحافلات المصرية للقصف فتصبح القاهرة طرفا في الحرب.

ومظلومة لأنه مطلوب منها وحدها القيام بالدور الذي يجب أن تقوم به معظم الدول العربية التي لها علاقات مباشرة مع إسرائيل، وعليها أن تتحمّل بمفردها عبْء نزوح الفلسطينيين إلى سيناء، بصرف النظر عن تكاليف هذه الخطوة على الأمن المصري، وما يمكن أن تفضي إليه مستقبلا من تصفية قاسية للقضية الفلسطينية، فغالبية من لجأوا إلى دول عربية أو فروا من آلة الحرب الإسرائيلية لم يعودوا إلى ديارهم.

ظالمة لأنها لم تستخدم أسلحتها المتطورة وجيشها في دك إسرائيل وتخفيف الضغط العسكري عن أهالي غزة. لم تستغل الحدود الممتدة لاختراق الجدران الإسرائيلية وتكسر كل المواثيق الدولية التي وقعت عليها أمام العالم بموجب اتفاق السلام مع إسرائيل من دون اعتداء مباشر على أراضيها، وتدخل في زمرة ما يسمى بمحور المقاومة والممانعة والرفض الذي لم يتقدم أحد من أعضائه للدفاع عن الفلسطينيين.

ومظلومة لأنها خسرت تعاطف الأمة وابتعدت عنها حناجر الجماهير التي تهتف من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، ولو أن مصر لم تندفع نحو محاربة إسرائيل ومن معها من الدول الغربية التي وفرت لها دعما سياسيا وعسكريا غير محدود، فكأن هذه الجماهير لن تجد من تعوّل عليه للقيام بالمهمة، بعد أن تبخر رهانها على إيران وأذرعها في المنطقة، واستيقظت تركيا على انتقادات جوفاء.

ظالمة لأنها انكفأت على أزماتها الداخلية وفكّرت في البحث عن حلول لها، ولم تهب لنجدة الإخوة الفلسطينيين وتتحمل مشاكلهم الاقتصادية، وهي التي تبحث عن نافذة لتجاوز العقبات التي تواجه الدولة المصرية في تعاملها مع صندوق النقد الدولي والوفاء بسداد فوائد الديون في مواعيدها، كأن لزاما عليها أن تزيد الأعباء على اقتصادها، وتخوض حربا لم يستشرها فيها أحد أو تعلم شيئا عن تفاصيلها وأهدافها.

ظالمة لأنها انكفأت على أزماتها الداخلية وفكّرت في البحث عن حلول لها، ولم تهب لنجدة الإخوة الفلسطينيين وتتحمل مشاكلهم الاقتصادية

ومظلومة لأنها تتعرض لضغوط كثيفة لتتحمل تكلفة باهظة لما قامت به حماس، وما صدر من تلميحات إسرائيلية وغربية بشأن الطريقة التي دخلت بها معدات عسكرية إلى غزة، لأن المعبر الوحيد المفتوح على القطاع هو معبر رفح المصري، كما أن الشاحنات التي تدخل من خلاله تصر إسرائيل على تفتيشها إمعانا في الضغط على القاهرة، واطمئنانا إلى أن الشاحنات لا تحمل وقودا أو مواد محرّم دخولها من إسرائيل.

ظالمة لأنها لم تستمع إلى من حاولوا جرها حرجا إلى حرب، يمكن أن تشعل صراعا إقليميا، بينما أصحاب هذه الأصوات يجلسون أمام شاشات هواتفهم يبثون دعاية سوداء ومغرضة، ولا يجدون ذنبا في من وضعوا أموالا طائلة في بنوك غربية واستثمارات سخية في دول تقف في طليعة المؤيدين لإسرائيل، وعلى مصر أن تنهض للدفاع عن الأمة وتتجاهل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها استجابة لنداءات تصدر ممن يضعون أياديهم في مياه باردة، ولم تمسهم السخونة التي يواجهها فلسطينيو غزة.

ومظلومة لأنها يجب أن تدفع الضريبة العسكرية والسياسية والاقتصادية بلا جريرة ارتكبتها أو ذنب اقترفته في المنطقة، إذ تتمسك بالحلول التفاوضية في وقت تتصاعد فيه معالم الحلول الخشنة والقاسية، ويتم رفض الأولى والصمت على الثانية، فالازدواجية التي كشف عنها العدوان على غزة مطلوب تعميمها، بل وعدم التغطية لها، ولم تفلح المبادرات والنداءات والاستغاثات والمظاهرات المختلفة في ثني الدول الغربية عن تعديل مواقفها من الانحياز السافر لإسرائيل.

مصر ظالمة لأن عدد سكانها يتجاوز المئة مليون نسمة، بينما الشعب الفلسطيني في غزة لا يتخطى الـ2 في المئة من هؤلاء، ولا ضير في التضحية ببضعة ملايين من هؤلاء لإنقاذ حماس التي كبدت مصر خسائر فادحة في وقت سابق عندما دعمت المتطرفين في سيناء ومدتهم بالأسلحة. ومصر ظالمة أيضا وعليها القبول بمنهج الحركة الإسلامية مهما كان العوار فيه، ومهما حملت روافده السلبية من ألم للبلاد.

ومصر مظلومة لأنها تبحث عن تسوية عادلة للقضية الفلسطينية تحافظ على ثوابتها، بينما هناك دول عربية انجرفت نحو إسرائيل بلا اعتبار لهذه النقطة المحورية أو وضع شرط لتسويتها، فقد طلبت القاهرة تسوية هذه القضية عندما أقدمت على توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل منذ حوالي أربعين عاما، ورفض الفلسطينيون هذا العرض، وتعرضت مصر لمقاطعة عربية وكأن قدرها التعرض للاتهامات في حالتيْ الحرب والسلم، ما يقلل من جدوى وأهمية من طالبوها بالوقوف في صف حماس.

9