مصر تواجه أزمة الفساد بالاعتماد على التحول الرقمي

رقمنة المعاملات الحكومية تعزل متلقي الخدمة عن مقدمها.
الأربعاء 2021/09/29
الفساد معضلة تؤرق الجهات الرقابية

تخوض مصر معركة حاسمة لمحاربة الفساد، وهي تستهدف حاليا التوسع في استخدام التكنولوجيا. فرقمنة المعاملات تقمع الفساد وتتمكن من تقويضه، ولا يضطر بموجبها المواطنون أو أصحاب الأعمال إلى التعامل بشكل مباشر مع مقدمي الخدمات الذين يعطلون مسيرة العمل ويرفضون إنهاء الخدمات قبل تلقي رشاوى أو ما يصطلح عليه بالإكراميات.

القاهرة – كثف النظام المصري جهوده لتعزيز دور أدوات التحول الرقمي في مجابهة الفساد بكل أنواعه الإدارية والذي يتغذى على البيروقراطية العتيدة في البلاد، وتسعى الحكومة لتطبيق الميكنة الكاملة في جميع الإجراءات والتي تبلغ تكلفتها نحو 6.4 مليار دولار بغرض الحد من الفساد.

وأعلن الرئيس عبدالفتاح السيسي مؤخرا تعميم التحول الرقمي للإجراءات الضريبية والجمركية فعليًا بحلول مارس المقبل بعد مساع حثيثة يبذلها لإصلاح المنظومة الفاسدة التي ورثها عبر تدشين استراتيجيتين وطنيتين لمكافحة الفساد على مرحلتين، الأولى هي الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2014 – 2018، وأعقبها بالخطة الثانية التي تضم الفترة 2019 – 2022.

ركائز أساسية

تقوض أنماط الفساد المختلفة فرص التنمية المستدامة التي تلبي حاجات الأفراد الأساسية وتنال من جودة الحياة وتزيد من مؤشرات السخط الشعبي، وهو ما فرض تحديات كبيرة على الحكومة المصرية ودفعها إلى التسلح بكل الأدوات لمواجهة تلك الظاهرة منذ الشروع في تنفيذ استراتيجية مصر الرقمية.

وترتكن الاستراتيجية على ثلاثة محددات هي: بنية تحتية ذات كفاءة، وعصرنة، وسياج تشريعي وحوكمي. وقد نجحت الحكومة في رقمنة 60 خدمة حكومية على منصة مصر الرقمية لمواجهة الفساد في إطار مشروع يتم تنفيذه باستثمارات قدرت بـ192.3 مليون دولار لرقمنة الخدمات الحكومية.

محمد سعيد: التحول الرقمي سينتصر  على الفساد، باعتباره التطور الطبيعي للزمن
محمد سعيد: التحول الرقمي سينتصر  على الفساد، باعتباره التطور الطبيعي للزمن

وتقدمت مصر درجتين في التقرير السنوي الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية الخاص بمؤشر الفساد العالمي للعام الماضي، حيث أصبح تقييمها 33 نقطة من أصل 100، ويعد ذلك تقدما مقارنة بالعام السابق عليه، حيث كان تقييم مصر 35 نقطة، واحتلت المركز 117 من أصل 180 دولة، فيما أصبح ترتيبها 11 عربيّا.

وتشمل مظاهر الفساد التي يغطيها مؤشر الفساد وفقا للمنظمة الرشوة واختلاس المال العام وانتشار ظاهرة المسؤولين الذين يستغلون المناصب العامة لتحقيق مكاسب شخصية دون عقاب، بجانب قدرة الحكومات على الحد من الفساد وفرض آليات فعالة لتكريس مبدأ النزاهة في القطاع العام، وعبء الإجراءات الروتينية والبيروقراطية المبالغ فيها ما من شأنه زيادة فرص ظهور الفساد.

وتعد هيئة الرقابة الإدارية الجهة الرئيسية المنوط بها كشف الفساد الإداري في مصر، وفقًا لاختصاصاتها طبقاً لقانون إنشائها رقم 54 لسنة 1964 والمعدل بالقانون رقم 207 لسنة 2017.

وكشف أحدث تقرير للهيئة عن أن الفساد في مصر بات أقل انتشارًا وفق نتائج المؤشر العام لإدراك الفساد، إذ سجلت نحو 49 درجة بنهاية العام 2019، مقارنة بنحو 43.5 درجة في العام السابق عليه.

ويتخذ الفساد أشكالا مختلفة في مصر ولا يقتصر على أداء وقرارات المسؤولين، بل يمتد ليشمل مقدمي الخدمات للمواطنين في مجالات مختلفة، والذين يستغلون جهل طالب الخدمة بما تتيحه الحكومة من إجراءات تيسر عليه مشقة التعامل المباشر مع مقدم الخدمة.

وتتفاقم أوضاع الرشوة في قطاع الصحة، وسوء حالة الخدمات، ما يدفع أهالي المرضى إلى دفع رشاوى من أجل الحصول على جودة أو خدمة صحية مميزة، إذ يضطر طالب الخدمة تحت آلام المرض اللجوء إلى الفساد، ما يعد بيئة خصبة لانتعاشه.

فساد متجذر

الجائحة سرعت من عمليات التحول الرقمي في الاقتصاد المصري نتيجة الإجراءات الاحترازية التي شرعت الحكومة في تطبيقها
الجائحة سرعت من عمليات التحول الرقمي في الاقتصاد المصري نتيجة الإجراءات الاحترازية التي شرعت الحكومة في تطبيقها

أصبح الفساد الإداري متجذرا وتحول إلى معضلة كبرى تؤرق الأجهزة الرقابية في مصر، وكان سببًا في تعطل قطاع البناء لمدة عام قبل عودته منذ 3 أشهر تقريبًا، كما اتخذت الحكومة آليات عدة ضمن تفعيل التحول الرقمي للحد من الرشاوى، قبل أن تتعثر في القضاء عليه تماما.

ويرى الخبراء أن التكنولوجيا آلية فعالة ضد الفساد لأنها تحول بين متلقي الخدمة والموظف الفاسد، إذ تعزز الرقمنة من الشفافية والبعد عن مواطن الفساد، كما أن تفعيل الحكومة الإلكترونية يحد من انتشاره بدرجة كبيرة.

وقال محمد سعيد، رئيس شعبة البرمجيات بجمعية اتصال لتكنولوجيا المعلومات بمصر، إن التحول الرقمي إحدى آليات التغلب على البيروقراطية والروتين وإهدار الوقت في التعامل مع الهيئات الحكومية، ومن ثم رفع كفاءة الجهاز الإداري للدولة.

ورغم الرسوم التي تحددها الحكومة لإنهاء الإجراءات والخدمات للمواطنين إلكترونيًا مثل الوثائق أو التراخيص إلا أن تكلفتها أرخص إذا تم إنهاؤها يدويًا، لأن الفساد والرشاوى يرفعان تكلفة أداء الخدمات.

وأضاف سعيد لـ”العرب” في النهاية سوف ينتصر التحول الرقمي على الفساد، باعتباره التطور الطبيعي للزمن، ومهما تعددت العراقيل على طريق التكنولوجيا لا يمكن أن تمنع تفعيلها وتغلبها على الفساد.

بين الفساد الأكبر والأصغر

القاهرة نجحت في تطبيق التكنولوجيا
القاهرة نجحت في تطبيق التكنولوجيا

تملك مصر إرادة واضحة نحو تفعيل التحول الرقمي لمكافحة الفساد الذي ورثته على مر العصور، ويتضح ذلك من تطوير هيكل وإدارة وزارة الاتصالات والإنفاق الهائل على عمليات الميكنة في الحكومة.

ودشنت القاهرة المجمع المتكامل لإصدار الوثائق المؤمنة والذكية وهو الأحدث والأكبر من نوعه في الشرق الأوسط وأفريقيا باستثمارات تبلغ مليار دولار، بهدف وضع مقاييس موحدة للوثائق على مستوى البلاد، وخفض الاعتماد على العنصر البشري لمنع محاولات التزوير أو التزييف والقضاء على أي فساد إداري.

ويهدف المجمع إلى تحقيق أهداف مصر في التحول الرقمي والارتقاء بالخدمات المقدمة للمواطنين بالاعتماد على قواعد بيانات سليمة ومؤمنة وتقديم الحلول التكنولوجية بمجالات الإصدار الذكي، وتوفير قواعد بيانات دقيقة بداية من التجميع وحتى إصدار الوثائق لكافة الأفراد.

ولم تشهد محاربة الفساد ثباتًا خلال العصور الماضية، لكن الأدوات المتاحة خلال تلك العقود لم تكن كافية لمواجهة مؤسسة الفساد لذلك تضخمت تلك المنظومة، وحاليًا ثمة إرادة فعالة لكبح جماح الفساد بجانب الأدوات التكنولوجية الحديثة، لذلك يتم ضبط عدد كبير من الفاسدين من قبل الأجهزة الرقابية.

وأشار سعيد إلى أن مكافحة الفساد الأصغر والمتمثل في الرشاوى التي يتقاضاها الموظفون هي الأصعب لأنه الأكثر توغلاً في مؤسسات الدولة، بينما فساد المسؤولين قد يكون أسهل، لأن المسؤول يتعامل دائمًا مع القيادات العليا، وتعاملاته مكشوفة وأي غموض في قراراته يتم فضحه سريعًا.

وتلعب جهود الأجهزة الرقابية الفعالة تجاه كشف الفساد الأكبر دورًا حاسمًا في إصلاح الموظفين بالهيئات المختلفة، لأن صلاح المسؤول يترتب عليه التزام تابعيه وموظفيه في الإدارات الدنيا.

ويقف تراخي الجهات الرقابية وعدم الجدية لضبط الفاسدين أحيانا تحديًا كبيرًا أمام مجابهة الفساد في أي دولة، وللتغلب على ذلك ينبغي التعاون بين أركان المجتمع لتعزيز العمل الجماعي في مواجهة الفساد، فضلاً عن ضرورة توافر حملات توعية للمواطنين للكشف عن وقائع الفساد.

ولا تُخفي شوقية عبدالصمد وهي امرأة خمسينية في حديثها لـ”العرب” انبهارها بمشروعات الرقمنة التي شرعت الحكومة في تنفيذها في الفترة الأخيرة، لكنها لا تستطيع التواكب معها لعدم إلمامها بالتكنولوجيا، وأنها لن تستخدم خدمات الحكومة الإلكترونية، لأنها لا تجيد التعامل مع الكمبيوتر أو الهواتف الذكية.

وعبر فتحي سيد وهو شاب ثلاثيني في حديثه لـ”العرب” عن اندهاشه من الخدمات التي توفرها الحكومة في ظل تعزيز التحول الرقمي، وأن سوء خدمات الإنترنت في قريته يعوق إتمام بعض الخدمات، كما أن عبارة “السيستم واقع” (لا يعمل) التي يسمعها كثيرًا في المصالح الحكومية تُحبط المواطنين ولم تنجح في حل مشكلة التكدس التي يعاني منها المواطنون يوميًا.

ويؤكد كلام بعض المواطنين ضرورة وجود حملات توعية لإقناع المواطنين باستخدام الخدمات الإلكترونية التي توفرها الحكومة منعًا للفساد، فضلاً عن ضرورة تطوير وتحسين البيئة التحتية للاتصالات والإنترنت، لاسيما في الريف المصري.

وأعلن وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات عمرو طلعت أن الدولة لم تُهمل مشروع رفع كفاءة خدمات الإنترنت، إذ تم ضخ استثمارات بنحو 1.9 مليار دولار خلال العامين الماضيين، وتم استكمال الخطة باستثمارات 352.6 مليون دولار خلال العام الحالي وهو ما أسهم في ارتفاع متوسط سرعة الإنترنت بمصر من 6.5 ميغابايت/ثانية في يناير 2019 إلى 39.6 ميغابايت/ثانية في أبريل الماضي.

مشاركة جماعية

الرقمنة تقمع الفساد من المنبع
الرقمنة تقمع الفساد من المنبع

تحتم مواجهة الفساد وجود جهاز حكومي يتلقى البلاغات من المواطنين ويتعامل معها على محمل الجد، كما ينبغي ضمان الحماية لهم، لأن عدم حمايتهم أو الكشف عن هويتهم أبرز أسباب عدم المشاركة الجماعية في مواجهة الفساد، إذ يخشى الأفراد من تبعات إبلاغهم عن الفاسدين من البطش وتعريض حياتهم للخطر.

وأعلنت هيئة الرقابة الإدارية أنه من اختصاصاتها بحث الشكاوى التي يقدمها المواطنون عن مخالفة القوانين أو الإهمال في أداء واجبات الوظيفة، ومقترحاتهم في ما يتراءى لهم أو يلمسونه بقصد تحسين الخدمات وانتظام سير العمل وسرعة إنجازه.

وذكر حسام الغايش الخبير في الاقتصاد الرقمي وعضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع، كلما بعدت المسافة بين المستفيد ومن يطبق القانون زاد التغلب على منظومة الفساد، موضحًا أن

التقنية حل فعال والتحول الرقمي هدف أساسي تسعى له الدول التي تواجه الفساد بجدية لأنها تمنع أن يكون لفرد سلطة على غيره.

ورغم ضعف الرواتب بالجهاز الإداري للدولة إلا أن العقود الماضية شهدت حرصا من عدد كبير من الشباب على العمل بالقطاع الحكومي، لكنهم يدركون أن ثمة طرقا أخرى يحصلون بها على الأموال، إذ يتربحون من وراء وظائفهم من خلال ما يتقاضونه من رشاوى أو ما يطلقون عليه “الإكرامية”.

وأكد الغايش لـ”العرب” أن مواجهة الفساد تزيد من إيرادات الحكومة، وأن مساعي الدولة الحالية لردع الفاسدين جاءت في توقيتها بعد وصول مصر إلى مستويات غير لائقة من الفساد في عهود سابقة، حتى أن المستثمر كان يضع بندًا على تكلفة مشروعه قبل دخول السوق تحت اسم “تكلفة الفساد”، وهذا حال جميع البلدان النامية.

ويأتي البحث عن المصلحة كأحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى انتشار الفساد وتضخمه في مصر، حيث استحل بعض الموظفين الفساد وأصبحوا يمارسونه دون أية دوافع رادعة، وهي إحدى العوامل التي تهدر الجهود التي تبذلها الأجهزة
الرقابية.

وبات الفساد بمصر في مرتبة أقل من العصور السابقة مع إصرار القيادة السياسية على مكافحته، كما أن انفتاح القاهرة على العالم سياسيًا واقتصاديًا يحدّ منه، لأن التعاون والمشاركة مع البلدان الأجنبية يُجبران الحكومة على مواجهة الفساد بكل قوة.

البداية من أسفل

حسام الغايش: التحول الرقمي هدف أساسي تسعى له الدول التي تواجه الفساد
حسام الغايش: التحول الرقمي هدف أساسي تسعى له الدول التي تواجه الفساد

رغم الآثار السلبية للجائحة صحيًا واقتصاديًا، لكنها سرعت من عمليات التحول الرقمي في الاقتصاد المصري نتيجة الإجراءات الاحترازية التي شرعت الحكومة في تطبيقها، ما عزز من التحول الإلكتروني في إنهاء التراخيص والمدفوعات الإلكترونية، بجانب حزمة إجراءات تضم حوافز للمعاملات الإلكترونية من قبل البنوك، وهي عوامل تحد من المعاملات اليدوية.

دشنت الحكومة مشروع تطوير الخدمات الحكومية في المحليات أو البلديات من خلال المراكز التكنولوجية الحديثة والتي يصل عددها على مستوى الجمهورية إلى نحو 312 مركزا، ويوفر المشروع منظومة خدمات حكومية فعالة ترضي متلقي الخدمة ومؤديها عبر قنوات متعددة تؤكد على مبدأ النزاهة والشفافية لتعزيز كفاءة الجهات الحكومية والحد من الفساد الإداري.

كما أطلقت وزارات العدل والتخطيط والتنمية المحلية مشروع “سيارة خدمة تكنولوجية متنقلة مجهزة بالكامل” للعمل كمراكز تكنولوجية متنقلة في 8 محافظات كمرحلة أولى، هي القاهرة والجيزة والقليوبية والمنيا والإسكندرية والأقصر وكفر الشيخ وأسوان، حيث تقدم خدمات المحليات والشهر العقاري والسجل المدني، وهو ما يعزز من مواجهة الفساد.

ولا يزال الفساد ظاهرة عالمية تعاني منها مختلف الدول، لكن الأهم هو نسبته، فالدول النامية بها نسب مرتفعة لضعف الموارد والإمكانيات، وقد لا يؤثر توافر الموارد في مواجهته إذا غابت الثقافة والوعي لدى الشعوب، وقد يساعد التحول الرقمي مصر على المضي بثبات نحو مواجهة الفساد.

ويعد انضمام الجهات الحكومية ذات الإيرادات المرتفعة إلى التحول الرقمي مثل الجمارك والضرائب بمثابة تحجيم قوي لمنظومة الفساد، كما أن ما ورثته مصر من منظومة متخمة يقلل

من ظهور كفاءة الرقابة، وهو ما يمكن التغلب عليه برقمنة الاقتصاد، بما يدعم مصر في الوصول إلى معدلات عالمية بمؤشرات الفساد قريبًا.

12