مصر تتحلل من جماعات ضغط خارجية

القاهرة لم تخطط للتخلص من جماعات الضغط الخارجية لكنها بدأت تحوّل السلبيات الناجمة عنها إلى فرصة إيجابية يمكن أن تصب في صالحها من خلال التجاوب والتعامل مع الأمر الواقع ومواجهته.
الخميس 2023/03/02
انفتاح على قوى منافسة

بعد أن كتبت تحليلا بعنوان “خطة الدولة لقهر جماعات الضغط في مصر” المنشور في عدد الأحد الماضي، تلقيت اتصالات من أصدقاء وزملاء سألوا عن الشق الخارجي في هذه القضية وهل بدأت القاهرة تتحلل من بعض جماعات الضغط التقليدية.

تمعنت في السؤال ووجدت أنه يستحق التوقف عنده من زوايا مختلفة، ولفت نظري أن البعد الداخلي جاء متعمدا ووفقا لمنهج وخطة وترتيبات اتبعتها الدولة، بينما البعد الخارجي جاء قسريا واضطراريا في غالبية تطوراته، لكنه أدى إلى نتيجة مشابهة.

إذا أخذنا العلاقة بين مصر والولايات المتحدة كنموذج لحجم التحلل سنجدها دخلت عليها تغيرات كبيرة في الفترة الماضية، فقد كانت رهانات القاهرة مرتفعة على واشنطن خلال عهدي الرئيسين الراحلين أنور السادات وحسني مبارك، بما مثل عبئا سياسيا لا يستهان به على الدولة، إذ آمن كلاهما بأن أوراق اللعبة في منطقة الشرق الأوسط في حوزتها، بما لا يتوقف عند تسوية القضية الفلسطينية والضغط على إسرائيل.

لذلك اقتربت مصر كثيرا من الإدارات الأميركية المتعاقبة على مدار نصف القرن الماضي، وعولت على ساكني البيت الأبيض في ملفات عسكرية وسياسية واقتصادية تحولت محاورها لأدوات ضغط على القاهرة كلما لم ترق تصرفاتها لواشنطن.

إذا كان النظام المصري بإمكانه تقويض جماعات الضغط في الداخل إلى مستوى منخفض وضبط بوصلتها، فالأمر على الصعيد الخارجي أشد قسوة ومرارة لأن مفاتيحه تسيطر عليها أطراف تملك بدائل تستطيع تحريكها في اتجاهات متباينة

اتجه الرئيس المصري الحالي عبدالفتاح السيسي إلى تفكيك العقد التي تحيط بهذه العلاقة من خلال انفتاح محسوب على قوى منافسة أو وازنة، مثل روسيا والصين ودول أخرى في الشرق والغرب والجنوب، كي لا تصبح القاهرة رهينة دوما لمدى الرضاء أو السخط الأميركي عليها، ونجحت هذه السياسة إلى حد ما في تحجيم نفوذ الولايات المتحدة المفرط في مصر، وأحدثت توازنا صب في صالح الأخيرة.

على مستوى التفاصيل، سعت القاهرة إلى نزع فتيل واحدة من أوراق الضغط الغربية متمثلة في تراكم الاتهامات حول نسبة المعتقلين السياسيين في السجون المصرية وزيادة الانتقادات بشأن وجود تجاوزات في ملف حقوق الإنسان، وعملت على تسريع وتيرة الإفراج عنهم وصاغت ما يسمى بـ”الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان”.

بصرف النظر عن الجدوى الحقيقية ومنسوب الجدية في الخطوات الرسمية التي اتخذت في هذين الملفين، فالتحركات المتزامنة على صعيد كليهما أحدثت رواجا بأن هناك تجاوبا مصريا سياسيا مع التحفظات الغربية، ورغبة في تخفيض الضغوط الناجمة عنهما، لأن المنظمات الحقوقية الدولية بدأت تزعج بعض الحكومات الأوروبية والحديث عما يكتنف تصرفاتها من تناقضات في التعامل مع القاهرة.

أراد النظام المصري التحلل نسبيا من هذه الضغوط عبر سياسة تمضي في اتجاهين، أحدهما تبني تصورات سياسية وحقوقية توحي بالاستجابة والتفاعل، والآخر نسج شبكة مصالح عسكرية مع دول أوروبية مختلفة تجعلها ترخي قبضتها في بعض الملفات الشائكة على أمل أن تتخلص القاهرة من الدسم الذي بات يمثل عبئا عليها.

لم تتخلص مصر تماما من إشكاليات هذه النوعية من الملفات، لكنها حرصت على صياغة أجندة متعددة الوجوه والأشكال والألوان تخفف من حدة الاتهامات والانتقادات الخارجية، وأحيانا تستجلب إشادة، حيث استثمرت ما حققته من تقدم في ملف الهجرة غير الشرعية الذي تحول إلى إزعاج للكثير من الحكومات الغربية.

من دون ربط مباشر بين هذه الملفات، تيقنت بعض الدول الغربية أن الضغط على النظام المصري باستخدام حقوق الإنسان يؤدي إلى تداعيات من بينها أن ترتخي قبضته لتأمين الحدود البحرية، وتتراجع قدرته على تقويض الهجرة غير الشرعية عبر السواحل المصرية.

ظلت مصر أسيرة لتلقي منح ومساعدات ومعونات خارجية، وكان يأتي معظمها من دول خليجية، وقد تكون القاهرة تضررت من التغير الملحوظ في الطريقة التي تقدم بها، حيث انتقلت إلى مربع الاستثمار والاستحواذ، أي تم توقف المساعدات المجانية أو طويلة الأجل، في وقت تعاني فيه مصر من أزمة اقتصادية طاحنة.

من يدقق في إشارة الرئيس السيسي في أحد خطاباته عندما قال “لا توجد دولة تعيش على المساعدات” يتسنى له تفسير معناها الخفي وفهم ما تحمله من مضامين، فقد وصل وقتها إلى قناعة بضرورة امتصاص الصدمة والتعامل مع الواقع بكل تعقيداته ودفع الثمن الباهظ، وبالتالي التحلل على المدى البعيد من إحدى أوراق الضغط الخارجية التي كبلت التوجهات المصرية في بعض القضايا الإقليمية.

رغم الغصة من توقيت التغير في العلاقة الاقتصادية بين مصر ودول خليجية، غير أن هذه الحلقة كانت آتية لا محالة، بحكم التحولات الجارية في المنطقة وتباين حسابات بعض الحلفاء والأصدقاء وخطط وإستراتيجيات بعض الدول لتعظيم مواردها.

نجاح هذه السياسة يقود إلى التخلص لاحقا من سيف المساعدات الذي ظل مسلّطا على رقبتها لفترة طويلة وكبّل حركتها الخارجية في بعض الأوقات ودفعها للقبول بإجراءات إقليمية أو الصمت عليها وهي غير مقتنعة بها

ربما التوقيت أوجد ألما في مصر التي تواجه أزمة اقتصادية حادة، وتحاول الخروج من شرنقتها بإدخال إصلاحات هيكلية تجذب الاستثمارات على أسس جديدة.

يقود نجاح هذه السياسة إلى التخلص لاحقا من سيف المساعدات الذي ظل مسلّطا على رقبتها لفترة طويلة وكبّل حركتها الخارجية في بعض الأوقات ودفعها للقبول بإجراءات إقليمية أو الصمت عليها وهي غير مقتنعة بها.

كما أن التقارب الحاصل بين مصر وكل من تركيا وقطر أزال عن القاهرة، ولو مؤقتا، الضغط بورقة جماعة الإخوان والتنظيمات المتطرفة، حيث مثلا صداعا مزمنا في رأس الدولة فترة طويلة، والتخلص منهما أو تخفيف الاستثمار فيهما يؤدي إلى راحة مصرية في التصدي لهؤلاء وتوجيه طاقتها إلى ملفات أخرى حيوية.

لم تخطط القاهرة للتخلص من جماعات الضغط الخارجية في الوقت الراهن، لكنها بدأت تحوّل السلبيات الناجمة عنها إلى فرصة إيجابية يمكن أن تصب في صالحها مستقبلا من خلال التجاوب والتحايل والتعامل مع الأمر الواقع ومواجهته بكل ما ينطوي عليه من ضغوط بعد أن وصلت إلى مستوى جعل خياراتها محدودة.

يشير الجزء الظاهر من التحركات المصرية لمواجهة جماعات الضغط الخارجية إلى رضوخ واستسلام وقبول وعدم مقاومة، إلا أن الجزء الغاطس فيه يمكن أن يقلب الأزمة إلى حافز لتجاوز العقبات الرئيسية، ويمكن أن تترتب عليه تصورات تمنح القاهرة قدرا كبيرا من استقلالية القرار، وهو المحك الذي يكشف لأي مدى سوف تتغير علاقاتها مع الدول التي استخدمت أو لوحت بأوراق الضغط التي تملكها.

إذا كان النظام المصري بإمكانه تقويض جماعات الضغط في الداخل إلى مستوى منخفض وضبط بوصلتها وتحمل نتائجها، فالأمر على الصعيد الخارجي أشد قسوة ومرارة لأن مفاتيحه تسيطر عليها أطراف تملك بدائل تستطيع تحريكها في اتجاهات متباينة، وهو ما يجعل التخلص كليا من جماعات الضغط الخارجية عملية وعرة، وتحتاج إلى قدر كبير من الحنكة والرشاد لسد الثغرات المنتظر أن تؤدي إليها.

9