مصانع النسيج اليدوي في البحرين تغلق أبوابها

ماركات الملابس العالمية ومصانع النسيج الحديثة تحكم على حرفيي صناعة النسيج اليدوي بالتقاعد في معظم البلدان العربية رغم أنها تشكل عنصرا من عناصر الهوية، فالحياكة اليدوية تصنع ملابس ذات خصوصية محلية، إذ أن ملابسنا التقليدية تحدد هوايتنا ومن أين نحن، لذلك ما زال القليل من الحرفيين يتشبثون بمهنتهم، ليس حبا فيها فقط وإنما أيضا خوفا عليها من الاندثار، وهذا راجع إلى إصرار بعض النساجين القلائل في البحرين.
المنامة – لم يبق في قرية بني جمرة البحرينية سوى مصنع نسيج واحد ونسّاج واحد يمارس الحياكة في بيته، بعد أن كانت هذه القرية وحدها تعج بأكثر من 100 مصنع يغطي إنتاجها البحرين ودول الخليج العربي.
تقع قرية بني جمرة في شمال البحرين وتبعد نحو 15 كيلومترا عن العاصمة المنامة بالقرب من قرى البديع والدراز والمرخ، وعدد سكانها يقدر بـ11 ألف نسمة، وقد انحصرت فيها صناعة النسيج اليدوي، بعد أن كانت تنتشر في قرى أخرى هي أبوصيبع ودار كليب ومقابه، التي كانت تعج هي الأخرى بالمئات من المصانع الصغيرة.
يقول صالح محمد صالح -وهو صاحب المصنع الوحيد في بني جمرة، الذي بقي يقاوم الضغوط ويتمسك بالإرث الحرفي لعائلته- لـ(العرب) “كانت الحرفة الرئيسية في بني جمرة هي النسيج، ويكاد جميع سكان القرية يعملون فيها، ولكن بعد دخول التكنولوجيا إلى البلاد والنقلة التي حققها النفط في حياة البحرينيين ترك أغلب الناس حرف آبائهم وأجدادهم وتوجهوا إلى الوظائف الحكومية والأعمال الأخرى، وبقيت أنا مواظبا على هذه الحرفة، وهناك شخص آخر في بني جمرة يمارسها في بيته”.
وأضاف “لم يتمسك بهذه الحرفة من أبنائي إلا ولدي حبيب الذي أتقنها أكثر مني، وهو الآن أسرع مني في الحياكة، رغم أنه يعمل في شركة لصناعة الكتل الخرسانية، أما ولدي الآخر فقد اتجه للعمل في شركة نفطية وهو لا يعرف هذه الحرفة ولم يمارسها يوما”.
صالح تلقى حرفته من والده الذي تلقاها هو الآخر من والده، وهو لا يعرف تاريخ هذه الحرفة في عائلته لإيغالها في القدم، لكنه يذكر أن نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي كانت نهاية العشرين مصنعا التي بقيت من المئة مصنع في القرية، واعتزازا بوالده علّق إحدى معدات النسيج التي كان يستعملها على جدار المصنع، فضلا عن صورة زيتية له وأخرى فوتوغرافية قديمة.
يذكر صالح أن من العائلات الجمرية التي احترفت صناعة النسيج عائلات بيت عبدالرسول وبيت نجم وبيت إدريس وبيت محفوظ وبيت فتيل، وغيرها الكثير.
حرفة حياكة النسيج من أهم الحرف التقليدية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ البحريني حيث عرفها الإنسان في البحرين وتوارثها جيلا بعد جيل، واستطاعت أن تلبي معظم حاجيات السكان من الملبوسات وغيرها مما يدخل في صناعتها الخيوط النسيجية.
بدأت صناعة النسيج في قرية أبوصيبع منذ زمن طويل، وجاءت تسمية القرية بسبب صناعتها لباس العروس وكان يسمى “اللباس الأصبعي” لأنه كان يخاط بالأصابع، وهناك اكتشافات أثرية قديمة في القرية تؤكد وجود مهنة النسيج فيها، منذ عهد حضارة دلمون قبل التاريخ، ويمتاز منتجها بجودة عالية كما هو حال المنتج الجمري.
لم تكن مصانع النسيج سوى أكواخ متواضعة من سعف النخيل يحتمي بها النساج وأفراد أسرته من حرارة الشمس. ويذكر النساج جعفر الخير أنه في قرية بني جمرة تعلم هذه الحرفة من المعلم صالح يوم كان تلميذا في المدرسة، ثم وجد وظيفة نساج في مركز الجسرة للحرف اليدوية، وهو سوق رائجة يؤمها الناس لشراء حاجاتهم، وكانت المنسوجات الجمرية تصدّر إلى مناطق الخليج والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية.
يقترح محمد صالح لنفخ الحياة مجدداً في هذه الحرفة أن تكون هناك جهات تسويقية فلا يكفي أن يأتي السياح الأجانب إلى المصنع ليشتروا، لأن شراءهم مهما كان سيكون محدودا، وأن تدعم الدولة النساجين وتفتتح دورات لتدريب الشباب على هذه الحرفة، وترسل النساجين إلى البلدان التي تهتم بصناعاتها اليدوية بغية الاطلاع وزيادة المعلومات.
وأشار إلى نية وزارة التراث والثقافة فتح بيت لصناعة النسيج في بني جمرة، وقد تجد من الضروري، عند نجاح تجربتها، أن تفتتح بيوتا أخرى ومراكز تدريب في القرى التي كانت فيها هذه الصناعة موجودة قبل أن تضمحل.
يشرح حبيب صالح، نجل صاحب المصنع، “تعد آلة الحياكة من الآلات اليدوية معقدة التركيب إذ تدخل في تركيبها الألواح الخشبية وأعواد الخيزران وبعض الخيوط الدقيقة والحبال، وتصنع بمواصفات هندسية دقيقة تبقي هذه الآلة صالحة للاستعمال لمدة طويلة من الزمن دون تلف، إلا أنها قد تحتاج إلى بعض الصيانة بين الحين والآخر”.
ويضيف أن حياكة النسيج عملية سريعة ودقيقة تتطلب توافقا عصبيا وبدنيا كبيرا، إذ يستخدم النساج كلتا يديه ورجليه، يوزع الخيوط ويداخلها ببعضها البعض بصفة منسقة ومنظمة وينسج في اليوم من ثلاثة إلى خمسة أمتار، ويباع المتر الواحد من ثلاثة إلى خمسة دنانير (8 – 13.5 دولار)، وغالبا ما تستخدم الخيوط القطنية، التي يغلب عليها اللون الأحمر والأسود كما تستخدم الخيوط الصوفية والحريرية.
ويصنع النساج البحريني الكثير من الملبوسات الرجالية مثل الأزر، والغتر، والبشوت، والأردية النسائية، كما يغزل أشرعة السفن والبسط التي تستخدم كمفارش.
ويهتم مركز الجسرة للحرف اليدوية، الذي يعدّ من أهم مراكز دول الخليج العربي المهتمة بالتراث والآثار منذ ما يزيد على ربع قرن، باحتضان الكوادر البحرينية المتخصصة في مجالات عدة من الحرف والصناعات التقليدية، من خلال ورش مخصصة لكل حرفة وصناعة وجذب الحرفيين المحليين العاملين في صناعة النسيج والفخار والسفن والصناديق المزخرفة والجبس والجص والآلات الموسيقية الشعبية.
ويجمع المركز أشهر الحرف اليدوية التي تميزت بها القرى، مثل صناعة النسيج في قرية بني جمرة، والسلال بقرية كرباباد، والفخار بقرية عالي، وصناعة السفن والأدوات ذات العلاقة بها في مدينتي المنامة والمحرق، في مسعى جاد لإعادة الحياة إليها ومنعها من الاندثار.
ويحفل مركز الجسرة بمنتجات النسيج المصنعة محليا والتي يقبل عليها السياح لجمالها ومتانتها مثل الشالات وغيرها.