مشهد التسويات في لبنان في أفق التحولات الغامضة

اكتشفت السياسة اللبنانية بعد تفجيرات البرج وباريس حاجتها إلى منطق التوافق والتسويات، وبات التقارب مطروحا بين مجموعة قوى متصارعة لم يكن الخلاف بينها مجرد اختلاف في وجهات النظر، بل صراعا جوهريا ومبدئيا.
الثلاثاء 2015/12/01
أزمة وطن متواصلة

بيروت - عصفت رياح التغييرات الإقليمية والدولية بالخلافات اللبنانية فقلبت التحالفات والعداوات رأسا على عقب، وبات ما كان مستحيلا قبل فترة وجيزة مطروحا للتفاوض والنقاش. وتتجلى أبرز علامات هذه التحولات في موضوع الانفراجات المحتملة في الملف الرئاسي، حيث ظهر سليمان فرنجية، المقرّب من فريق 8 آذار، فجأة بوصفه مرشحا توافقيا، وأنتجت قيادة الجيش ملصقا يحمل صور مجموعة من الشهداء الذين سقطوا في مواقع مختلفة ومتباينة بوصفهم شهداء الوطن كله. وأرسلت وزارة الاتصالات اللبنانية مقاطع من النشيد الوطني اللبناني إلى هواتف اللبنانيين، فصار كل اتصال يجريه أي مواطن لبناني يقتضي الاستماع إلى جزء من النشيد الوطني. كذلك يسجل الخرق الروسي للسيادة الوطنية اللبنانية وفرضها الحظر الجوي على لبنان لمدة ثلاثة أيام بالتزامن مع عيد الاستقلال.

ظهرت الوطنية اللبنانية بوصفها حالة منجزة مكتملة. وبدا التوافق وكأنه قاب قوسين أو أدنى من التحقق، فهل تعكس كل هذه المظاهر واقع انفراج فعلي أم أنها مبنية على قراءة متسرعة لتحولات لم تنضج بعد.

ملصق قيادة الجيش: كلهم شهداء

كان لافتا تصميم قيادة الجيش إبان فترة الاحتفال بعيد الاستقلال لملصق يضم صور عدد من شهداء الجيش والشخصيات السياسية والحزبية، التي سقطت على امتداد تاريخ لبنان الحديث، تحت عنوان كلنا للوطن.

ولم يكن مألوفا أن تعمد قيادة الجيش إلى تصوير أي شخصيات في ملصقاتها الخاصة بالاحتفال بعيد الاستقلال. من هنا بدا هذا الملصق وكأنه إعلان عن مرحلة أكثر مما هو تعبير عن الاحتفال بعيد الاستقلال. وتكمن علامات هذه المرحلة في الترويج لفكرة التوافق من خلال توحيد معنى الشهادة المتنازع عليه بين كافة الأطراف في لبنان، ورده إلى سياق وطني جامع يتكرّس في شعار كلنا للوطن.

مشكلة هذا المنطق أنه يكاد يكون شعريا وليس سياسيا، لأنه لا ينطلق من قراءة واضحة لطبيعة الصراعات بين كافة المكونات، والتي سقط خلالها هؤلاء الشهداء في مرات كثيرة في مواجهات بين بعضهم البعض. كذلك لا يعنى الملصق بموضوع كشف الحقائق، وما إذا كانت الطوائف والأحزاب اللبنانية باتت جاهزة للدخول في مرحلة الغفران والتصالح، وهو ما لا يبدو ممكنا إزاء لحظة حرب جارية.

الوطنية اللبنانية تظهر بوصفها حالة منجزة مكتملة ويبدو التوافق وكأنه قاب قوسين أو أدنى من التحقق

يتضمن الملصق صورا لبعض قيادات حزب الله ممن سقطوا في إطار مواجهات مع العدو الإسرائيلي ويجمعهم بشهداء الجيش والرئيس الشهيد رفيق الحريري وشهداء فريق الرابع عشر من آذار وحشد من الشهداء الذين اغتالتهم المخابرات السورية كالشهيد كمال جنبلاط، إضافة إلى شهداء الحزب الشيوعي اللبناني وغيره من الأحزاب.

اللافت كذلك أن ورود صور شهداء حزب الله إلى جانب شهداء الجيش قد يدفع إلى صياغة تحليل يقول إنه ربما يكون من معالم التسوية المقترحة المبادرة إلى معاملة قتلى حزب الله في سوريا معاملة شهداء الجيش، انطلاقا من قدسية لحظة مقاومة ضد إسرائيل، وهي اللحظة التي يبدو واقع الحزب الآن بمثابة اغتيال نهائي لها.

النشيد الوطني كتكليف شرعي إلزامي

استقبل اللبنانيون قرار وزارة الاتصالات القاضي بإرسال مقاطع من النشيد الوطني اللبناني إلى كافة الهواتف بكثير من السخط والاستياء. وتجلى ذلك في الكم الهائل من التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي والتي وصل بعضها إلى حدود اعتبار الأمر اعتداء جسيما. وتوضح هذه الظاهرة علاقة اللبنانيين بنشيدهم الوطني، وتقول الكثير عن أحوال البلاد، وكيف تنتظم صورتها في نفوس المواطنين أكثر من التحليلات السياسية.

وتحتاج الأناشيد الوطنية إلى أرض صلبة تقف عليها، وإلى أوطان مكتملة المعاني والأوصاف، وقادرة على التعبير عن هوية واضحة المعالم. لا تستطيع الأناشيد الوطنية العيش خارج حدود هذه المواصفات. لكن، لا يتوفر للنشيد الوطني اللبناني هذه الشروط، فهو لم يكن يوما نشيد الجميع، بل كان دوما نشيد جماعة.

وتمثل الأناشيد الوطنية حالة قصوى لا يمكن لأي شعب أن يحتمل العيش في ظلالها كل الوقت. وواقع الحال في لبنان، الذي يسفر منذ فترة طويلة عن حالة قصوى دائمة، جعل النشيد الوطني على الدوام أضعف من الحوادث وغير قادر على مجاراتها ولا على التعبير عنها. واستياء اللبنانيين من التكليف الشرعي بسماع النشيد الوطني إبان كل اتصال هاتفي يشي بأن هذا النشيد ليس قادرا على تذكير اللبنانيين بوطنيتهم ولا على بث روح الولاء والانتماء إلى الوطن، ولكنه يذكرهم بغياب الوطن، ويثير عبر فرضه الإلزامي، إشكالية العلاقة المتأزمة بين الدولة اللبنانية المتفسخة وبين مواطنيها.

الانتهاك الروسي

وجهت روسيا تزامنا مع استقلال لبنان صفعة مباشرة لفكرة السيادة اللبنانية حيث فرضت حظرا جويا عليه لمدة ثلاثة أيام، وباشرت في تنفيذه دون أخذ موافقة السلطات اللبنانية أو إعلامها. وأثّر القرار الروسي على حركة الملاحة الجوية اللبنانية، وأجبر بعض الطائرات على تغيير مساراتها، ما أدى إلى إطالة مدة الرحلات، كما دفع بالكثير من المسافرين إلى تأجيل سفرهم أو إلغائه.

الأناشيد الوطنية تحتاج إلى أرض صلبة تقف عليها، وإلى أوطان مكتملة المعاني والأوصاف، وقادرة على التعبير عن هوية واضحة المعالم

ولم تسفر الأجواء التوافقية التي يتم الترويج لها عن احتجاج عام ضد الخرق الروسي، بل مرّ الأمر دون صدور مواقف عامة تدينه، ما عدا بعض الأصوات النادرة المتفرقة. وتم السلوك الروسي في لبنان والمنطقة بالتوافق والتنسيق الكاملين مع العدو الإسرائيلي، وإذا بات الأمر معلنا وواضحا في ما يتعلق بالتنسيق في سوريا، فإنه من نافل القول إن السلوك الروسي إزاء لبنان لا بد له أن يتضمن كذلك تنسيقا مماثلا مع إسرائيل.

ويمكن إذن الخروج باستنتاج يقول إن ملامح التسوية اللبنانية تحتاج، لتكون ناضجة، إلى التفاهم مع إسرائيل حليفة روسيا، المتحالفة بدورها مع إيران وحزب الله.

رئاسة فرنجية الممكنة والمستحيلة

يرتبط سليمان فرنجية بعلاقة وثيقة مع بشار الأسد، ما يجعل من وصوله إلى الرئاسة في لبنان بمثابة استمرار للحكم الأسدي للبنان. فهل يمكن لتيار المستقبل القبول بتسوية تجعله يخسر حلفاءه المسيحيين وشارعه السني عامة والشمالي خاصة، في ظل ما ورد من مواقف حادة لوزير العدل أشرف ريفي؟ هل يمكن لسعد الحريري القبول بأن يكون رئيس حكومة في ظل وجود رئيس كان وزيرا للداخلية حين اغتيل رفيق الحريري، ولايزال الجمهور المستقبلي والـ14 آذاري يذكر كيف حاول طمس معالم الجريمة؟

الإتيان بسليمان فرنجية رئيسا ربما يفترض ألا يكون سعد الحريري رئيسا للحكومة. ويتقاطع هذا التحليل مع معلومات تقول، نقلا عن مصادر سعودية، إن التسوية المقبولة تقتضي بالقبول بسليمان فرنجية رئيسا، والإتيان بشخصية سنية أمنية لرئاسة الحكومة هي وزير العدل الحالي أشرف ريفي.

لكن، لا يبدو أن الأمور تسير في اتجاه تولي ريفي رئاسة الحكومة، بل أثار احتجاجه على مشروع ترئيس سليمان ردة فعل مستقبلية مسيئة تجلّت في ورود أخبار لم يتم التأكد منها تفيد بأن المستقبل منع تغطية أخباره في كل وسائل الإعلام التابعة له. هل يمكن لسليمان فرنجية أن يكون رئيس بورصة التسويات المتقلبة والتي إن كانت ممكنة الآن فإنها ستكون مستحيلة غدا والعكس صحيح؟ لا نعلم الآن، ولكن وكما يقول المثل غدا سيذوب الثلج ويظهر المرج.

6