مشاعر الغربة تخمة من القبول والرفض

ما يعيشه المغترب ينعكس سلبا وإيجابا على محيطه الأسري، فأفراد عائلته يقاسمونه الشوق ويحاولون شدّ أزره، وما سهّل العملية انتشار الوسائط الحديثة التي يسّرت التواصل صوتا وصورة.
الأحد 2018/04/15
العودة حلم من أحلام المغترب

مصطلح الغربة يصطبغ دائما بإيحاءات وإحالات وجدانية من شأنها أن تقيم مقارنة بين ماض تولّى بما يحمله من ذكريات وجْدٍ أو وجع وبين حاضر يحاول التجاوز.

وعلى حدّ القول الشهير للأديب والمفكر أبي حيان التوحيدي “الغريب من كان في غربته غريب”، فإن الشعور بالغربة والاغتراب تختلف حدّته من شخص إلى آخر وفق ما يحيط بالمغترب من ملابسات جلّها يتعلق بأمرين؛ أولهما مدى التواصل الحاصل بينه وبين أفراد عائلته ومكونات مجتمعه وبالمكان أيضا من حيث هو علامة فارقة في الوجود. وثانيهما مدى القدرة على الاندماج في مجتمعات الاستقبال مع مراعاة الفوارق الفكرية والحضارية عموما.

لا تخلو أي عائلة في تونس وفي دول الشمال الأفريقي عموما من وجود مهاجر أو مهاجرين لديها، مما جعل التعامل مع أحاسيس الغربة شأنا عائليا يتجاوز المغتربين أنفسهم، أي أن الهجرة أضحت من المشاريع الأسرية وربما الاجتماعية بما أن هناك اتفاقيات ثنائية وجماعية بين الدول تبرم من أجل تنظيم عملية الهجرة.

ينظر عادة إلى الهجرة من زوايا مختلفة وهي أن الأسرة غالبا ما تدفع بأحد أفرادها وتشجّعه على خوض غمار التجربة بالطرق والوسائل القانونية وفق ما يعرف بـ”الهجرة المنظمة” إذا تيسّر الأمر، وقد تدفع به إلى إلقاء نفسه في أتون مغامرة غير مضمونة العواقب في إطار هجرة سرّية. الدافع الشخصي والأسري لخوض غمار الهجرة دافع مادي بالأساس وهو محاولة تحسين الوضع المادي للأفراد والعائلات لمجابهة متطلبات الحياة أمام العجز الذي يلاحقهم في أوطانهم.

أما الرؤية الثانية فهي فكرية وأخلاقية وقد تكون تعليمية-علمية، في إطار الانخراط الفعلي في العولمة بجميع تشكّلاتها المختلفة. وعادة ما يكون هذا النوع من الهجرة منظما وفق اتفاقيات دولية في إطار التعليم أو التكوين أو التشغيل.

تحتفل العائلات -وخاصة في موسم العودة وهو عادة ما يكون صيفا- بعودة أبنائها من بلدان هجرتهم وإقامتهم بحفاوة كبيرة ترقى إلى حدّ الاحتفال الفعلي بعد ترقب قد يطول لسنة أو أكثر، فتسري في الأوساط العائلية والاجتماعية بوادر فرح واستقرار وإقبال على الحياة، وكأن هذا الموسم يساهم في كسر الطابع الروتيني للحياة.

فيكثر السهر والسّمر وتتوطّد العلاقات وتتجدّد وتعمّ الحركة الأجواء العامة وخاصة في الأيام الأولى للعودة من المهجر، فينسى المغترب ولو ظرفيا ما عاناه من أحاسيس الاغتراب المدمّرة في ظل الوحدة والانطواء على الذات وعسر الاندماج في المجتمع الجديد.

 العودة حلم من أحلام المغترب يعيش على وقعه أياما وشهورا وأعواما، يتخيّل كيف سيكون الاستقبال حارا يعيد إليه الدفء العائلي المفقود، ويعدّ الأيام والليالي عدّا كمن يتطلّع إلى هلال رمضان. هل هو الشوق إلى الحضن العائلي الكبير بمرجعياته الدينية والثقافية والاجتماعية والحضارية؟ أم هو إقرار ضمني بفشل تجربة الاندماج في مجتمع آخر؟

من الأكيد أن ما يحققه المغتربون على المستوى المادي هام، بل هو ضروري لتجاوز الأزمات، بحيث تتغير الملامح المادية للعائلة والتي قد تعيش الرفاهية بما يوفره المغترب من مال ومن متاع تختلف درجة قيمته. ولكنّ الكسب المادي ليس سهلا في ظل ما يبذله المغتربون من جهد ومشقّة ليرضوا أرباب العمل الذين لا يعترفون سوى بكمّ وكيف الإنتاج.

إنه سيناريو متعاود يكرّر نفسه في مشهد شبيه بالسينما، كثير من البذل والعطاء والصبر وحتى الحرمان، وقد يصل الأمر إلى الإهانة والميز العنصري لاعتبارات جنسية أو دينية، خاصة مع تصاعد وتيرة الإسلاموفوبيا بعد الهجمات الإرهابية التي شهدتها العواصم الأوروبية وخاصة في فرنسا وألمانيا.

فحياة المغترب لا تعدو كونها صراعا مستمرا من أجل الإقناع بانتمائه إلى حاضنته الاجتماعية في الهجرة، ما يدفع بعضهم إلى الانبتات والتنصّل من الجذور الحضارية التي تربطهم بأوطانهم الأصليّة. تبدو عملية الاندماج سهلة ولكنها تتطلب الكثير من التضحيات في شكل تنازل لا إرادي عن البعض من الثوابت الأخلاقية والحضارية.

كل المغتربين يعانون من ويلات الغربة والمشاعر التي ترافقها والتي تتردى بين الشوق العارم للأهل والوطن وخيبة الاندماج والانصهار في المجتمعات الجديدة التي تؤمّهم وتؤويهم وتوفر لهم مصادر العيش المادية بالخصوص. إنها المشاعر التي لا يمكن حدّها، فهي مزيج فريد من الشوق والرغبة والرفض والألم، يستبدّ بالمغترب فلا يهنأ بلقائه وتواصله مع عائلته ومحيطه الحضاري، ولا يُسرّ بوجوده في مجتمع بمعايير ومقاييس مختلفة. بكل بساطة المغترب لا يعرف الراحة والاستقرار والتوازن النفسي.

ما يعيشه المغترب ينعكس سلبا وإيجابا على محيطه الأسري، فأفراد عائلته يقاسمونه الشوق ويحاولون شدّ أزره، وما سهّل العملية انتشار الوسائط الحديثة التي يسّرت التواصل صوتا وصورة. يفرح أفراد الأسرة بعودة المغترب إلى الحضن العائلي الدافئ ويترحون عند انتهاء إجازته، ويعيشون مثله على حلم بلقاء يتعاود باستمرار.

21