مسيرات العودة.. لماذا لم نعد؟

خرج مئات المواطنين للتظاهر في منطقة ملكة شرق غزة بعد غياب طويل بسبب منع أمن حماس لأي أحد من الاقتراب من الحدود، ما أسفر عن إصابة العشرات منهم بالاختناق ومنهم بالرصاص الحي، وكانت جرافات حماس قد أعادت تمهيد الأرض لإقامة ما تسميه مخيمات العودة تمهيدا لعودة “مسيرات العودة الكبرى” وفعالياتها بالأراضي المحتلة التي كانت قد انطلقت في 30 مارس/آذار من العام 2018، واستمرت 21 شهرا، قبل أن يتم تعليقها في ديسمبر/كانون الأول 2019، لتعود الآن على استحياء بسبب المعارضة الشديدة لها من قبل الفصائل الفلسطينية والمواطنين.
كما أن إعادة إحياء ما يسمى بـ”مسيرات العودة وكسر الحصار” تثير الكثير من التساؤلات حول مدى فاعليتها، والإنجازات التي حققتها، والأهداف التي أخفقت في الوصول إليها. ومما لا شك فيه أن من إنجازات المسيرات، رغم أنها كلفت خسائر بشرية كبيرة، 215 شهيدا بينهم 47 طفلا، وسيدتان، وما يقارب عشرين ألف جريح، هو تخفيف الحصار عن قطاع غزة جزئيا وتوظيفها من قبل حركة حماس لتحقيق أهداف سياسية خاصة بها، وفتح أفق سياسي خارجي لحركة حماس لتكون البديل “الوظيفي” لمنظمة التحرير الفلسطينية، بمساعدة دول عربية وإقليمية.
إن مسيرات العودة كفكرة هي جميلة ورائعة لأنها تحيي حلم العودة في نفوس الفلسطينيين في الداخل والمهجر وتفشل المساعي الإسرائيلية للقضاء على قضية اللاجئين والعودة وضرورة إيجاد حل عادل لهم، كما تسلط الضوء على واقع الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته الجسيمة لحقوق الإنسان، باستهداف المتظاهرين السلميين، وكذلك واقع قطاع غزة والحصار المفروض عليه. كما ساهمت المسيرات في انتزاع جملة من القرارات الدولية في إدانة الاحتلال، عبر تشكيل لجنة تقصي حقائق من قبل مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، للنظر في جرائم الاحتلال بحق المتظاهرين السلميين بغزة.
لكن من الواضح جدا أن تلك المسيرات لم تحقق شيئا من الأهداف المعلنة والتي أبرزها هو كسر الحصار عن غزة، الذي لم ينكسر، بعد أن استنفدت المطلوب منها، ووصلت إلى ذروة ما تستطيع أن تقدمه من إنجازات وهي: ضخ الأموال القطرية لدعم بقاء حكم حماس لقطاع غزة وتعزيز الانقسام الفلسطيني ليصل إلى مرحلة الانفصال التام.
إطلاق الإرادة الشعبية وتحفيزها لا يعنيان دفع الناس إلى الموت، رغم أن للحرية أثمانا لا بد أن تدفع في لحظة ما. وغني عن القول، إن المبادرات الشعبية لا تنتظر قرارا تنظيميا من قوى سياسية أقصى ما لديها التضامن مع شعبها
مسيرات العودة كانت فكرة خلاقة من أجل وضع القضية الفلسطينية على طاولة اللاعبين الدوليين والإقليميين وتحريك الشارع العربي والإسلامي في وقت كانت بعض الدول العربية تهرول وراء وهم التطبيع مع دولة الاحتلال من خلال ما سمي حينها بــ”صفقة القرن”، لكن ما حصل هو استغلال لهذه المسيرات الشعبية وسرقة لنضالات الشباب الغزي مقابل فتات من المال القطري، وبعد توقفها لم يجد هؤلاء الشباب وخاصة الجرحى منهم والمبتورة أرجلهم من يقوم حتى بعلاجهم وتوفير أبسط حقوقهم كالدواء والعلاج، وكل يوم نرى حالات انتحار بينهم ونرى مئات الفيديوهات منهم وهم يبكون ويناشدون أي أحد أن يلتفت إليهم ويوفر لهم العلاج.
أنت، قبل أن تدعو إلى إعادة إحياء ما يسمى بمسيرات العودة يجب عليك دراسة الماضي الأليم لهذه المسيرة، دراسة متأنية من جديد لأن المتغيرات كثيرة والظروف ليست متشابهة.
تنويه خاص: انتخابات البرايمرز أو المناطق التنظيمية في حركة فتح التي انطلقت بعد إعلان أبومازن عن موعد المؤتمر الثامن لحركة فتح تشوبها الكثير من الكولسات وإعادة إنتاج نفس الوجوه القديمة التي فشلت في زحزحة الوضع التنظيمي لأي شيء سوى المزيد من الفشل. بالله عليكم ما زهقتوا؟
عموما فقد سعت إسرائيل إلى تقديم بعض من التسهيلات الاقتصادية للفلسطينيين جراء أجواء التهدئة التي تعيشها غزة، وهو ما حصل بالفعل وتمت زيادة عدد الداخلين لإسرائيل من عمال غزة، ووصل الأمر إلى التعاون الثنائي المشترك بين شركات من قطاع غزة من جهة وبين الجهات العاملة في إسرائيل والمعنية بإدخال العمال من جهة أخرى.
غير أن ما جرى خلال الساعات الماضية من عدم وجود استجابة حاشدة لدعوة حركة حماس لتنظيم ما يعرف بالمسيرات يحيط الشكوك بالكثير من عوامل التأثير التي باتت عليها الحركة، وبات واضحا أن الحاجة الاقتصادية والكثير من العوامل الاجتماعية تؤثر في دعوات حركة حماس للخروج في مسيرات العودة أو غيرها من الدعوات، الأمر الذي يزيد من دقة هذه القضية برمتها حاليا.
من جهته كان لافتا هذا التصريح لأحد مسؤولي حركة حماس والذي قال إن الحركة وبالتوافق مع الفصائل عازمة على تصعيد الاحتجاجات قرب السياج الفاصل “إسنادا للمقاومة في الضفة الغربية ودعما للمقدسات والأسرى الفلسطينيين”. وأضاف المسؤول أن تحضيرات واتصالات تتم، للمزيد من الحشد الشعبي وتصعيد الفعاليات في الاحتجاجات الشعبية، بهدف الضغط على إسرائيل بما في ذلك المطالبة بتحسين الأوضاع الإنسانية في غزة. ويقول مراقبون إن حماس تتأهب لتصعيد محتمل مع إسرائيل، بالتحرك على عدة جبهات لاسيما في ظل ما تواجهه من ضغوط وأزمات تتعلق بالأوضاع المعيشية في قطاع غزة. ومن بين تلك الضغوط مصاعب تأمين صرف رواتب قرابة 40 ألفا من موظفي الحركة، والذين يتقاضون أصلا 60 في المئة من قيمة رواتبهم منذ سنوات طويلة.
واشتكى مسؤولو الحركة من تقليص دولة قطر بشدة ما تقدمه من أموال لصالح صرف رواتب موظفي حماس، في إطار منحتها الشهرية للمساعدات الإنسانية في قطاع غزة. وذكروا أن قطر التي كانت تخصص مبلغ 10 ملايين دولار لصالح رواتب موظفي حماس، قلصت المبلغ منذ نحو 6 أشهر إلى 3 ملايين فقط، كما أن هناك حالة من عدم انتظام الدفع في الشهور الثلاثة الأخيرة، ولم تصرف إلا مرة واحدة.
ولم تعلق حماس أو قطر علنا بشأن المنحة المالية المخصصة من الدوحة لرواتب موظفي الحركة الإسلامية. لكن مصادر في الحركة تحدثت عن استياء قطري من حماس، على خلفية تقاربها مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد مجددا، بعد قطيعة استمرت لسنوات. وبحسب المصادر، فإن الدوحة التي تستضيف رئيس المكتب السياسي لحماس في الخارج، غاضبة بوجه خاص على زعيم الحركة في غزة يحيى السنوار، على خلفية تصريحاته المتكررة بالإشادة بنظام الأسد.
مسيرات العودة كانت فكرة خلاقة من أجل وضع القضية الفلسطينية على طاولة اللاعبين الدوليين والإقليميين وتحريك الشارع العربي والإسلامي في وقت كانت بعض الدول العربية تهرول وراء وهم التطبيع مع دولة الاحتلال
بمتابعة التفاعل الإسرائيلي، يتبيّن أنه الأوضح من بين التفاعلات المحيطة. فإسرائيل وجدت نفسها في مأزق كيفية المعالجة. والمأزق هنا ليس احتمال تنفيذ فلسطينيي غزة العودة الآن، بل أمام تحد إستراتيجي جديد اعتقدت أنها لن تضطر إلى أن تواجهه، على الأقل في ظل حالة التراجع الفلسطيني الراهنة والوضع المتردي في الإقليم برمته.
يتمثل التحدي الأول في احتمال أن تشكل خطوة مسيرة العودة كسرا لحاجز الصدمة والخوف الذي حال دون وجود وتطور برنامج فلسطيني جدي للعودة منذ النكبة. وينبع التحدي الثاني من احتمال أن يشكل حراك حيفا نموذجا للعمل النضالي من خارج منظومة الاستعمار. كلا التحديين يشكلان خطرا إستراتيجيا بالنسبة لإسرائيل. أمام هكذا خطر لا تقلق إسرائيل بردود الفعل الدولية، إنما ما يهمها هو إدامة حالة الانكسار الفلسطيني والعمل ضمن المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية والأممية. ولأن إسرائيل واثقة من استفحال حالة الانكسار في الضفة والداخل والشتات، ومطمئنة تماما إلى الدور الغربي، وخصوصا الأميركي في كبح التفاعلات الدولية، اختارت القمع بشدة.
هذا الاختيار نابع من إدراك عميق لخطورة الخطوة فيما إذا أدت إلى كسر حاجز الخوف لدى الفلسطيني وبدء العمل من خارج المنظومة لتحدي أساس المشروع الصهيوني. إن كسر الحاجز والمنظومة يعني بداية الخروج من حالة العجز ودوامة انتظار إنفاذ المجتمع الدولي لوعوده. وبالمعنى الإستراتيجي، يشكل هذا الخروج الخطر الأكبر على المشروع الصهيو – إسرائيلي الاستعماري. إسرائيل تدرك أن العودة لن تتحقق عبر هذه المسيرة، وتدرك أن الحراك بذاته لن يهزمها، ولكنها تدرك أيضا أنها قد تشكل نموذجا لمبادرات فردية وجماعية لا حصر لها. وأزمة إسرائيل، لن تكون في قمع المبادرات بذاتها، بل في تبلور وعي الفلسطيني لذاته، وحقوقه، وقدراته ومشروعه التحرري بالتالي. وعليه، لم يكن الإسراف والوحشية في القتل عبثييْن، إنما الغاية منهما إعادة الوعي إلى مربع الصدمة، والخوف والانكسار.
ربما لا تستطيع حشد عشرات الآلاف، ولكن ليس بحاجة إلى حصار ظالم لأكثر من عشر سنوات ليدرك أن وضعه لا كرامة له فيه، ولا حقوق مصونة له. الحقيقة، التي لا يجب إغفالها أن مختلف المواقع مهدورة الكرامة والحقوق رغم عدم تطابق أشكال القمع والظلم والتمييز والإذلال، ورغم ما قد يبدو من تفاوت في المستوى، بحاجة إلى كثير من التمعن ليرى أهمية الاعتماد على الذات مقابل فشل المجتمع الدولي في إحقاق الحق، أو تواطئه مع إسرائيل أو تآمره على قضيتنا وحقوقنا. وعليه، تكون الأولوية لفعاليات منظمة تحول دون تمكّن إسرائيل من إدامة حالة الانكسار والخوف. الأولوية لاستثمار اللحظة والحدث في تشكيل الفلسطيني القادر. لسنا بحاجة إلى سبعين عاما أخرى كي ندرك أن العودة – إذا كنا فعلا نريد العودة – رهن بإرادتنا. وغني عن القول، بأن إطلاق الإرادة الشعبية وتحفيزها لا يعنيان دفع الناس إلى الموت، رغم أن للحرية أثمانا لا بد أن تدفع في لحظة ما. وغني عن القول أيضا، إن المبادرات الشعبية لا تنتظر قرارا تنظيميا من قوى سياسية أقصى ما لديها التضامن مع شعبها.