مزاج روائي

لندع الاستعارة ودلالاتها في تمثل صلة الرواية بالمخدر، ولنفترض وجود إدمان مزدوج، واقعي ورمزي يقرن الرواية بالحشيش أو الكحول بحيث لا يتم الإنجاز من دون ملء الدماغ.
الأربعاء 2019/01/09
رواية "ملحمة الحرافيش" "مشروب في كتابتها مخدرات" (لوحة: هيلدا حياري)

بين الرواية وعوالم المزاج، جدل ممتد في الزمن، وتعلق غائر في الممارسة، قد يسمو بتجليات الرواية أو يزري بإيحاءاتها، ويحولها إلى محفل نزوات زائغة. ولعل في وصف تعلق الروائيين بأكوان عملهم، وما تحفل به من طقوس، وممارستهم للكتابة بوصفها عملا مزاجيا خاضعا لألوان متقلبة من الأهواء والأحوال، ليشي بتعود عاطفي وجسماني صعب فطامه؛ لهذا غالبا ما يستعمل النقاد تعابير وافدة من معجم عصابي، بصدد الحديث عن سلوكات الروائيين المتصلة بالعشرات من الوقائع والتفاصيل والنصوص، كما نجد مفردة من قبيل “الولع” تترد بكثرة في مذكرات روائيين كبار، وهي الرغبة المندفعة غير المفسرة التي قادت أورهان باموك لتشييد متحف للتحف التاريخية المستخدمة في فضاءات روايته “اسمي أحمر”.

كما أن استعمال عبارات من مثل “التعلق الأسلوبي” و”جرعات التخييل” و”الشطح الصوري” و”الوعي الزائف” و”انقشاع الوهم”، يجرُّ فِقْهَ الرواية إلى حقل التحليل النفسي للإدمان.

في تعليق مأثور للكاتب المصري يحيى الطاهر عبدالله على رواية “ملحمة الحرافيش” لنجيب محفوظ، (يورده الروائي غالب هلسا في كتابه “أدباء علموني.. أدباء عرفتهم”)، قال هذه الرواية “مشروب في كتابتها مخدرات”، وكأنما القدرة على توليد عوالم شديدة التعقيد والرمزية والإمتاع لا يمكن أن تتحقق دونما تناول ما من شأنه صرف النظر عن السطح الظاهر إلى العمق المعتم، وتهويش الإدراك العقلي الخالص… وبتأملك، عزيزي القارئ، في تفاصيل رواية الحرافيش تصادف عددا معتبرا من أصناف المخدر التقليدي، من الحشيش إلى الأفيون، تستهلكها شخصيات من الفتوات والتجار والحرافيش، ليتوازن العالم في نظرها.

وهي الرواية أيضا التي تتضمن عددا استثنائيا من الفاعلين في النص الروائي، بحيث ينصرف الذهن إلى أن الدماغ المبتدع لها والمركب لمساراتها ولغاتها ومشاهدها يحتاج إلى أن يكون سابحا في ملكوت الخيال المطلق، ذلك الذي تفطن إلى سحر مولداته من غلايين ولفائف ملغومة صمويل كولريدج فأبدع في صياغة “أغنية البحّار القديم”.

لكن لندع الاستعارة ودلالاتها في تمثل صلة الرواية بالمخدر، ولنفترض وجود إدمان مزدوج، واقعي ورمزي يقرن الرواية بالحشيش أو الكحول بحيث لا يتم الإنجاز من دون ملء الدماغ.

لن نتحدث هنا عن هنري ميلر ولا بول بولز ولا همنغواي، ولكن عن مبدأ التحايل على الإبداع بالمخدر والمنشط الذهني، فالقاعدة أن الخوف من النهاية، أو رهاب العقم والتوقف، يمكن آن يكون سبيلا ملكيا إلى الانتحار، المخدر هنا يبدو اختراقا للبياض، وتأجيلا للموت، أو على الأقل تخففا من وجع الإحساس بانتهاء الموهبة، ومن ثم فقد يفضي أحيانا إلى إنتاج أعمال شديدة القوة، وقد يكون أيضا عتبة للجنون.

15