مرحلة مفصلية في التاريخ: إما انهيار النظام العالمي وإما ميلاد عصر جديد

أحداث عام 2020 ستولد من رحمها تحوّلات سياسية تغيّر وجه العالم.
الأربعاء 2020/12/30
الأزمات الشديدة يمكن أن تدفع نحو الدمار أو التجديد

يدخل العالم عام 2021 مثقلا بأزمات وتحديات، حيث تتوزع بؤر النزاع وتُفاقم الانقسامات جراحه في دول عدّة، ويأمل الكثيرون أن يحمل العام الجديد فرصا للخروج من نفق الصراعات الطويل، بينما تتحدّث مؤشرات عن تغيّرات سياسية من شأنها أن تستبدل وجه العالم، بسبب تداعيات الصدمات الاستراتيجية والأزمات الشديدة التي شهدها العام الجاري على مستقبل النظام الدولي.

واشنطن - كان عام 2020، بكل المقاييس عاما مروعا، حيث انتشرت خلاله حالات الموت والاضطراب في جميع أنحاء العالم. ويؤكد المتابعون أن أحداث العام الذي يشارف على الانتهاء ستلد من رحمه تحوّلات من شأنها أن تغيّر وجه العالم، حيث سيشهد التاريخ مرحلة مفصلية إمّا انهيار النظام العالمي، وإمّا ميلاد عصر جديد.

ولكن إذا كانت تداعيات هذا العام تمثل تحديا حقيقيا لا يمكن إنكاره في الوقت الحالي، فكيف يبدو للمؤرخين إذا نظروا إلى الوراء على مدى نصف قرن من الآن؟

قال هال براندز الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة ييل الأميركية في تقرير نشرته وكالة بلومبيرغ للأنباء “سوف نتذكر الحرب العالمية الثانية على نحو مختلف كثيرا”. على سبيل المثال، لو انسحبت الولايات المتحدة ببساطة من العالم وانكفأت على نفسها بعد انتهاء ذلك الصراع، بدلا من المشاركة على نحو دؤوب بلا كلل لتشكيل النظام العالمي في فترة ما بعد الحرب لكان العالم مختلفا عمّا هو عليه اليوم.

ومع ذلك، فمن المؤكد أن أحداث عام 2020 سوف تلقي بظلالها على الجهود المستقبلية لتتبع مسار أحداث القرن الحادي والعشرين، الذي ربما يكون العام الذي يبدأ فيه النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة ينهار، أو ربما يكون العام الذي سيشهد بعث حياة جديدة.

صدمات استراتيجية

من السهل تخيّل الطريقة التي سوف ينظر بها المؤرخون في يوم ما لعام 2020 على أنه بمثابة بداية لعصر مظلم جديد. ففي غضون بضعة أشهر، تسببت صدمات استراتيجية تحدث مرة كل قرن، في ترنح العالم على مساره.

وأودت جائحة عالمية بحياة الملايين وأصابت بالجمود مجتمعات في عدة قارات، وشهد العالم انهيارا قويا للعولمة من خلال إغلاق الحدود وتوقف السفر فعليا، بينما عجزت الهيئات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، عن تقديم الكفاءة التكنوقراطية وتحقيق التعاون العالمي.

آلان كروفورد: الحكومات تواجه أزمة صحية وأزمة اقتصادية وأزمة مؤسساتية

وعلى الجبهة الجيوسياسية، شنت الصين، الدولة الرائدة في الاستبداد بالعالم، هجوما على عدة جبهات ما يثبت أنها لم تعد قنوعة بإخفاء قدراتها وتتربص لاقتناص الفرص تحقيقا للمكاسب، كما أوصى بذلك الرئيس الصيني دنج شياو بينج في الفترة من 1978 وحتى 1992.

إضافة إلى ذلك، فإن ما جعل عام 2020 صادما بشدة هو أنه جاء عقب عقد مؤلم للغاية، حيث تراجعت الديمقراطية عن موقع صدارة مشهد حقبة ما بعد الحرب الباردة، وشهدت تراجعا في عدة أماكن.

وبيّن براندز أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وارتفاع الشعبوية شكلا تهديدا للتكامل الأوروبي، وهو أحد المحاولات البارزة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

كما واجهت العولمة رياحا عاتية في المشهدين السياسي والجيوسياسي، حيث أصاب الجمود منظمة التجارة العالمية، وزاد صعود الصين الاقتصادي الأمر سوءا على نحو ينذر بالمزيد من الشؤم، وأصبحت الولايات المتحدة مؤيدة على نحو يكتنفه الغموض للتجارة الحرة.

ومن هذا المنظور، فإن الصدمات التي تسبب فيها عام 2020 لم تكن مجرد أحداث غير متوقعة. كانت أزمات كشفت عن انتشار العفن داخل المؤسسات والترتيبات التي أسست النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة.

إن حقبة سبعينات القرن الماضي، على سبيل المثال، بدت في الكثير من الأحيان وكأنها نهاية المطاف بالنسبة إلى القوة الأميركية واقتصاد العالم الحر، وسط صدمات النفط، ونهاية نظام بريتون وودز المالي، وانتكاسات جيوسياسية كانت بمثابة عقاب. ومع ذلك، فقد أدّت الأزمات إلى الارتقاء وليس إلى السقوط.

وشنت الولايات المتحدة بسرعة هجوما جيوسياسيا مضادا مدمرا ضد الاتحاد السوفييتي الذي كان متمددا على نحو مفرط، وتعاونت مع الحلفاء الرئيسيين لإنشاء مؤسسات جديدة (مثل مجموعة السبع) لتسهيل التحول إلى نظام أكثر عولمة، وتبنت الدول عبر الغرب إصلاحات مؤيدة للسوق أدّت إلى ازدهار متجدد.

وكان هذا العام بعد كل شيء، هو العام الذي قام فيه النظام السياسي الأميركي بتصحيح نفسه بعد مغازلة خطيرة مع الشعبوية شبه الاستبدادية لتيار اليمين، بينما رفض أيضا شعبوية اليسار التي تزعزع الاستقرار.

عاصفة الوباء

خطوات ثقيلة وسط عواصف 2020
خطوات ثقيلة وسط عواصف 2020

شهد هذا العام جهودا، بقيادة الحلفاء الأميركيين، لبدء إصلاح المنظمات الدولية المحتضرة ووضع آليات جديدة – مثل توسيع مجموعة السبع – من أجل تحقيق تعاون ديمقراطي أعمق وعلى أوسع نطاقا.

وظهر أيضا حذر جديد من القوة الصينية، ليس في الولايات المتحدة فحسب، ولكن في أوروبا والديمقراطيات المتقدمة الأخرى أيضا، ولم تنته حقبة ترامب فقط بقطيعة عبر المحيط الأطلسي بسبب الصين، ولكن بمناقشات أولية تتعلق بكيفية التعاون بشكل وثيق لمواجهة التهديد الذي تشكله بكين.

كما أدّى وباء فايروس كوفيد – 19، إلى تسريع وتيرة الجهود للتحول إلى نمط أكثر ذكاء للعولمة من منظور جيوسياسي، وهو نمط لا تسعى فيه الدول الديمقراطية إلى إعادة عمليات الإنتاج التي كانت قد نقلتها خارج أراضيها، ولكن ببساطة إلى إخراج سلاسل الإمداد الهامة من الأنظمة الاستبدادية المعادية المحتملة.

وحسب رأي براندز “لا يمكننا حتى الآن معرفة المسار الذي سيتخذه العالم بالفعل. والتاريخ يتضمن احتمالات مختلفة؛ حيث كان من الممكن أن يؤدي تغيير نحو 45 ألف صوت في أربع ولايات إلى إعادة انتخاب دونالد ترامب، ما سيدفع بالديمقراطية الأميركية والسياسة الخارجية إلى مسار مختلف تماما عن المسار الذي ربما سيسيران فيه إبان عهد الرئيس المنتخب جو بايدن”.

وسواء كان خيرا أو شرا، سننظر إلى عام 2020 باعتباره مرحلة مفصلية في التاريخ، فهو العام الذي أرسل موجات صادمة من خلال النظام القائم وبالتالي غيّر شكل العالم على المدى الطويل. وهذه الأزمات الشديدة يمكن أن تدفع بالنظام العالمي إمّا إلى الدمار وإمّا نحو التجديد، لكنها بالكاد يمكن أن تفشل في ترك بصمة دائمة.

ويقول الكاتب والمحلل الأميركي آلان كروفورد في تقرير نشرته وكالة بلومبيرغ للأنباء إنه في عام هيمنت عليه جائحة كورونا، واجهت الحكومات أزمة صحية، وأزمة اقتصادية وأزمة شرعية مؤسساتية، كل ذلك في وقت يشهد تنافسا سياسيا جغرافيا. وسوف تساعد كيفية تبلور كل تلك التحولات الضخمة خلال الأشهر المتبقية من العام كثيرا في تحديد عصر ما بعد الفايروس. فقد تكثفت وتسارعت الاتجاهات التي كانت واضحة بالفعل قبل ظهور الوباء.

فالصين باعتبارها قوة في حالة تصاعد سريع، أصبحت أكثر قوة وتنافسا مع الدول ابتداء من كندا حتى أستراليا. والولايات المتحدة، القوة العظمى التي ما زالت على قمة الطاولة منذ مؤتمر بوتسدام، أصبحت منغلقة على نفسها بصورة متزايدة مع تغلغل الفايروس في قلب سكانها واقتصادها قبل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل.

وأشار روري ميدكاف رئيس كلية الأمن القومي بالجامعة الوطنية الأسترالية إلى “أن كثيرا من المشكلات الهيكلية في النظام الدولي أصبحت واضحة بجلاء”.

وأضاف أنه في ظل التقاء نقاط ضغط متعددة، ابتداء من فشل القيادات إلى الافتقار للثقة في صحة المعلومات، “كل ذلك يفاقم ما يعدّ عاصفة هوجاء… والاختبار الكبير يتمثل حقيقة في ما إذا كان بوسعنا أن نقضي الأشهر بين الستة والثمانية عشر المقبلة دون أن تبلغ هذه الأزمات ذروتها”.

هال براندز: لا يمكننا حتى الآن معرفة المسار الذي سيتخذه العالم بالفعل

ويرى ديمتري سايمز، الرئيس والمدير التنفيذي لمركز “ناشيونال أنتريست” الأميركية، أن العالم الحديث يشهد لأول مرة في تاريخه “عاصفة مثالية”؛ حيث ساهم فايروس معدٍ ومميت للغاية، وكساد اقتصادي عالمي يلوح في الأفق، وانهيار الحوكمة العالمية، وغياب أي رد فعل دولي فعال ومنسق، في مأساة غير مسبوقة… مأساة لن يكون من السهل التغلب عليها.

ورغم أن الحجر الصحي والعزل الانفرادي ساعدا في تخفيف حدة الأزمة، يعتقد قليلون أن هذه الإجراءات وحدها يمكن أن تحسمها، ناهيك عن توفير خارطة طريق للمستقبل.

وفي تحليل نشرته مجلة “ناشيونال أنتريست”، يؤكد سايمز أن لا أحد يعرف حتى الآن كيف ستنتهي هذه العاصفة، بخلاف التأكيد الافتراضي بأن العالم سوف ينجو منها في نهاية المطاف.

وفي حقيقة الأمر، سوف يظهر في النهاية علاج للمرض من خلال الجمع بين بعض اللقاحات، ووسائل العلاج المحسنة، والتباعد الاجتماعي، وكذلك آليات جديدة للتجارة الدولية.

ومن الصعب، بل من المستحيل، التكهن بالتحديد متى يحدث ذلك، وكيف؟ لكن من الواضح أنه يجب وقف الخلافات السياسية الطاحنة التي تستنفد على سبيل المثال جهد الولايات المتحدة وتصرفها عن الاهتمام بتهديدات خطيرة.

ويرى سايمز أن هناك درسا واحدا يتعين أن نتعلمه من هذه الأزمة، وهو أولوية الدول ذات السيادة. وفكرة أن السيادة أمر قد عفا عليه الزمن، هي نفسها فكرة عفا عليها الزمن. فمن الواضح تماما أن الوباء يشجع الحكومات على التركيز على مصالحها الوطنية أولا. وعلى هذا الأساس فقط يمكنها أن تسعى إلى المشاركة في أي تعاون دولي.

وعلى أية حال، يتعين على حكومات الدول الكبرى الاعتراف بمسؤوليتها الجماعية عن الإخفاق في تحديد الأولويات العالمية، حيث إنها، بدلا من ذلك، اتخذت خطوات افتقدت للحكمة، وصرفت الاهتمام عن قضايا هي محلّ قلق كبير لصالح أخرى غير أساسية. كما أن من الأمور التي لا مبرر لها قيامها تقريبا بتدمير النظام الدولي الذي يهدف إلى خلق، وفرض، آلية للتجارة الدولية قائمة على أساس قواعد، وإضفاء الدول الطابع المسلح على التجارة العالمية لتعزيز مصالحها الفردية، أو قيمها الذاتية أو طموحاتها السياسية الداخلية. ولا تمثل المؤسسات، مثل الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، ومنظمة الصحة العالمية علاجا ناجعا لكل مشاكل العالم.

 
6