مدينة وشاعر وغياب مخاتل

إحساس الشاعر المنفي لا يمكن أن يكون مجرد شعور بالتباعد الحسي إزاء أصل مفقود إنما انتماء عاطفي إلى عالم يلتبس مغزاه ومداه حتى لدى المبدع المعني.
الأربعاء 2019/10/16
علاقة ملتبسة بين المبدع والمدينة (لوحة للفنان نجيب بالخوجة)

تتملكني باستمرار فكرة أن المدن النائية، الموغلة في البعاد، تستعصي على الفهم، العادات والناس والجدران والساحات، يدثرها القصو بهالة الغرابة، وعند صدمة اللقاء تصدنا السحنات الصلبة، والملامح النحاسية، والانفعالات الحادة، والكلام الحريف… تلك كانت انطباعاتي الأولى عن مدينة “وجدة”؛ آتيها في سفر يكاد لا ينقضي، يهد البدن والوجدان، وحين التقاط الأنفاس، بعد عبور المفازات الصخرية، الحمراء، كأنما أولد من جديد، يتشربني إحساس الوجود في تخوم الدنيا، ألملم شظايا العين والذهن لاستيعاب الكون الآهل بعد أشواط اليباب.

قاسم مشترك يجمع بين من أعرفهم من الموجودين هناك، غلالة صمت تكسو الملامح، وولع باصطناع “وقار”، لا تفتأ تعرجات الكلام تسل ستائره. ورصانة مخاتلة تداري نزوعا متأصلا للدعابة، على النقيض من سجايا الجسد والملامح والقسمات. يبدو الطبع مكشوفا عند الوهلة الأولى، وضوح مطلق في بيان الرأي أو الموقف، ومجاهرة قاسية أحيانا بالرأي دون تليين أو مداراة.

استحضرت كل هذه الانطباعات وأنا أعيد تركيب صورة الشاعر محمد بنعمارة، ابن تلك المدينة القصية، بمناسبة التئام معرض الكتاب المغاربي بها هذا الشهر، بعد مضي أزيد من ثلاث عشرة سنة على غيابه، استعدت أول لقاء لي به: جسد جبار لم تأخذ منه سنوات العمر ولا مرارات العيش. بدت سحنته القمحية بغرتها الطافرة من أعلى الجبين، علامة إيمان راسخ بالباري برغم تكالب الخسارات. بينما يبدو سيل الكلام، عتبة غوص فطري في صدف الصداقات، دونما وجل ولا اشتراطات، ولا احتراز مسبق، كذلك الذي يسكن دواخل العديدين ممن يدارون هشاشتهم باصطناع الحذق.

 نشيد الغرباء
 نشيد الغرباء

كنت قد عرفته من قبل صوتا أثيريا، استضاف شعراء وكتابا كثيرين ممن أحب في “حدائق الشعر”، كما عرفته، كائنا ورقيا في دواوين “السنبلة” و”عناقيد وادي الصمت” و”نشيد الغرباء” و”مملكة الروح” و”الشمس والبحر والأحزان”…، وكنت أتساءل بيني وبين نفسي باستمرار عن مغزى ذلك التساكن المفارق في عناوين أعماله بين عوالم الطبيعة والشجن، بين الثمار وانكفاء الروح، إلى أن لمسته في حضوره الشخصي، في الممارسة والكلام وإيماءات الجسد، كان مزيجا من روح الشاعر الدنيوي، المقبل على الحياة وعلى الناس، والصوفي المؤثر للوحدانية، المسرف في الانكفاء على أحزان النفس.

وأحسب أن صورة الشاعر محمد بنعمارة تجلت لي، على الدوام، بوصفها نوعا من الحضور الفطري المسكون بنزوغ الطفولة، انغمار تلقائي في المجالس، وطيبة في تلقي الآخر والإنصات إليه، ودماثة فياضة في الحوار، مهما يكن مزاج من يخاطب، ونفور غريزي من الجهامة، وبلادة الحس…، ولعلي لن أنسى ما حييت خفة ظله الممهورة بغير قليل من الجرأة في جلسات السمر المنعقدة على هامش المهرجانات الشعرية المختلفة، التي لا تنتهي أطوار نزقها إلا مع خيوط الصباح الأولى، كان يصمد كأكبر جهابذة السهر، بدربة على رتق فجوات الصمت، وألمعية في سكب رحيق المرح في أتون السجال الخشبي، كما أذكر بكثير من الحنين شجاعته في البوح، وقدرته على الإفصاح. يبدو حينها صادما للكثيرين، لكن دون أن يترك الفجوة تتسع على الراتق. في ذلك السبت الحزين الموافق للتاسع من أبريل 2003، تحدث عن العراق الذي أحبه، بعد أن تجمدنا لساعات أمام الشاشة نتابع السقوط المريع لبغداد. لن أنسى أبدا ملامح الكلام الصامت في عينيه، ولا ظلال الدمع المكتوم، حاولنا أن ننسى، عبر التجوال في دروب المدينة العتيقة، كانت تنقلنا تفاصيل الكلام إلى التعليق على المعمار والألوان المستعملة في طلاء الواجهات وهندسة الأزقة، بينما النسمات الباردة المنبعثة من أرضية الممرات الضيقة، ممتزجة بحرارة التحايا الموزعة بين القادمين والمغادرين من المشاركين، ترجعنا إلى صمت دواخلنا الموجوعة بالخراب البغدادي. وسرعان ما تستكين الأحشاء إلى فجوات الثرثرة الموهمة بالنسيان.

في مساء ذلك اليوم قرأ محمد بنعمارة هجائية جهيرة لهزائمنا المتكررة، نفذت كلماته حادة إلى الأعماق، تجاوبت مع إيقاع التنفس في القاعة المزدحمة بالحضور، كان الصمت مطبقا بين المقاطع، الكل يداري أحاسيس القهر واللاجدوى، وتنطق النظرات بارتجافات الجوف البارد برغم سخونة الأجواء. في تلك اللحظة التمعت في ذهني العلاقة الخفية التي تجمع بنعمارة بعبدالوهاب البياتي، ذلك الإعجاب الكبير الذي يكنه الشاعر المغربي لنظيره العراقي الموزع بين المنابذ، ليس في حدودها الشعرية فقط، وإنما في عمقها الوجودي؛ حينها تخايل إلي بنعمارة نموذجا للوجود في منفى الداخل، فليس المنفى حالة فعلية فحسب، بل هو حالة استعارية أيضا بتعبير راحل إدوارد سعيد، “هي حالة انعدام التكيف مع المجتمع تكيفا تاما”، حيث تضحى الوحدانية الموحشة رديفا لتواصل مفقود، ولتنابذ مطرد بين الذات المبدعة ومحيط غربتها “الأليفة”.

إن إحساس الشاعر المنفي لا يمكن أن يكون مجرد شعور بالتباعد الحسي إزاء أصل مفقود، سواء كان فضاء، أو محيطا بشريا، أو سننا مشتركا؛ كما يستحيل أن يضمن تماهيا، ما، مع سياق يفترض فيه أن يكون مؤقتا وعابرا. إن المنفى يكثف من إيقاع التوتر الناجم عن إحساسي الاقتلاع واللاتماهي، ويجاوزهما في آن، ليتحول إلى انتماء عاطفي إلى عالم يلتبس مغزاه ومداه حتى لدى المبدع المعني، إنه بالأحرى مسوغ السؤال الدائم الذي يجعل من الكتابة سفرا للبحث عن المعنى، وقلقا شبيها باللعنة القدرية التي تطغى لتختصر كنه الحياة في منطق الشاعر المنذور للتيه والرحيل: لغة وخيالا وارتحالا جسديا.

15