مدن وأسماء

الأربعاء 2017/06/28

حين تتبدل ملامح المدن أو تشيخ وعندما يطرأ عليها غرباء، أو يمر بها غزاة عابرون، تفقد الكثير من معالمها ومفرداتها وقسمات أهلها، تطفو تدريجيا على السطح كتل وامتدادات مشوهة، وأحيانا تتحول إلى هياكل، لكنها تتشبث بتسمياتها وبألقابها وما يتعارف الناس به عليها. وحتى حين تسلب عناوينها الأولى، ولو لحين من الدهر، فإنها لا تلبث أن تستعيدها، في مقاطع أغنيات وأبيات شعر وصور أفلام قديمة، وغيرها.

للمدن صلات رمزية بأسمائها، ليس فقط في ذاكرة الناس، وما تتوسله من تآويل حقيقية أو ملفقة، وإنما أساسا لدخولها لغة الخيال، ومهما تعددت التحويرات والاختزالات والتوريات لتلك الأسماء فإنها تبقى متصلة بالأصل الأوحد، الذي يعنيها في البدء والمنتهى. فدمشق هي دمشق مهما نعتت بالشام، والقاهرة لن تكون هي مصر، والدار البيضاء لن تتلف هويتها كازابلانكا، قد تتصل بها تساهلا ومجازا، لكنها الاسم ينهض دوما حين يتعلق الأمر بالهوية والتاريخ.

الصراع حول المدن في عمقه صراع حول أسماء، القدس لنا ولن يكون اسمها يوما أورشاليم، لهذا كم كانت تلك التسميات المفروضة للمدن سيئة الحظ وخائبة، في تصديها لقدر لا فكاك منه، وكم كانت تسميات داعش لمدن العراق والشام نكتا سمجة ونزوات رعناء.

في الصفحات الأولى من كتاب الذخيرة لابن بسام الأندلسي يتحدث المؤلف عن نزوله مدينة حمص بأرض الجزيرة، ولم يكن يقصد مدينة أخرى إلا إشبيلية، أو بالأحرى سيفييا المدينة القوطية التي لم تسلم بتسميتها الجديدة، مثلما لم تسلم سان بطرسبرغ بتسمية لينينغراد، كم من رواية اليوم أو قصيدة تذكر حمص الأندلس أو لينينغراد. قد تتلاشى المدن وتبقى تسمياتها المعجونة بالنكهات والألوان والحرارة والماء والرقصات وطعم الكلام، في صدى الداخل العميق.

نادرة هي المدن التي تتصالح مع أسماء اختارها حكام أو أنبياء أو عسكر، وإن تصالحت فإنها تحتفظ بتسمياتها الأولى الثاوية في الخيال القديم، صحيح أن المدينة المنورة هي المدينة المنورة لكنها أيضا يثرب، لن ينمحي هذا لاسم إلا بشطب آلاف الصفحات من كتب الأخبار والتراجم.

تعيش المدن بأسمائها التي تحافظ على نظارتها الأولى وبهائها الذي لا يتسرب إليه التشوه أو الخراب، ولا تتلفه الحروب الأهلية ولا الغزوات ولا لعنة التحديث أو “الترييف”، لكن لعنة بعض المدن في أسمائها المرتجلة، المغرقة في البداوة، تبدو منذ البداية غير جدية، وتوحي بأن في الأمر خللا ما، أو نكتة مخفية.

في عهد الحماية كان ثمة مدينة مغربية جميلة اسمها “جان الصغير” لا يمكن أن يحمل اسمها أي مشاعر قاتمة، ستتحول بعد الاستقلال إلى صيغة اسمية تنطبق على زاوية أكثر من مدينة، تختزل حنين اللاوعي الجمعي إلى الولاء والطاعة، فبات اسمها “سيدي قاسم”.

كاتب مغربي

15