مدارج الأصفر

في لوحة الرسام الفرنسي يوجين دولاكروا “الحرية تقود الشعب”، تلتفع البطلة ماريان برداء ينحدر لونه من الأصفر إلى البني، وبين تاريخ إنهائه لعمله التشكيلي وانتفاضة “السترات الصفراء” ما يناهز القرنين. كان العمل الذي بات أحد رموز الجمهورية، وليد ثورة وعي سياسي ليبرالي لم يستسغ طموح الملك شارل العاشر للعودة ببلد الثورة الفرنسية إلى ما قبل لحظة إعدام لويس السادس عشر وماري أنطوانيت، بعد إعلان وسم في الأدبيات السياسية بقرارات “سان كلو” تضمن تقييدا متزمتا لحرية الصحافة، وحل الجمعية الوطنية الفرنسية، وإعادة النظر في قوانين الانتخابات.
كان الإعلان بجوهر سياسي لا علاقة له باقتصاد فرنسي منتعش بعد احتلال الجزائر في ذلك الإبّان؛ صورة تقع على الطرف النقيض تماما من صورة انتفاضة أصحاب السترات الصفراء المتمردة على قرارات الرئيس إيمانويل ماكرون المتضمنة لزيادة الضرائب على المحروقات؛ التي تنضاف إلى سلسلة اختيارات تغلف نهم القابضين على المال لتحويل أغلب الشرائح المستهلكة إلى كائنات مرهونة ومدينة ومعتقلة داخل دوامة ملاحقة القوت والزمن.
في التحقيقات التلفزيونية وتلك المعممة عبر وسائط التواصل الاجتماعي تتخايل مرة أخرى صور النساء في مقدمة الاحتجاج والعصيان المدني ومعانقة العنف، وكأنما يتعلق الأمر مرة أخرى باستعادة مجاز “الإلهة ماريان” في لوحة دولاكروا، بردائها المنحسر بعنفوان عن محيط الذراع، طبعا يتعلق الأمر بإيحاء يركب رومانسية حريفة على أرضية جثث قتلى ومعطوبين ومنتهكين، يتوقون إلى العبور وتخطي دائرة الحصار اليومي لإرادة التحقق والبقاء والكرامة، والحفاظ على جذوة الرفض، ولتكن النتيجة حطاما معمّما… لا يهمّ.
الفارق الوحيد أن اللوحة المفعمة خيالا لا يمكن أن توازن بأي من التمثيلات الإعلامية التواقة إلى تحويل انتفاضة المأزومين والمدينين إلى سلوك جانح مخرب وضد النظام العام… طبعا لو قيّض لدولاكروا أن يعيش زمن ماكرون لما تنازل عن أمثولة ماريان، يخيّل إليّ أن ما كان سيختلف ربما هو برودة الأصفر المسربل للجسد الأنثوي الناهض في الرداء المنحسر عن الصدر، وحجم السوداوية وتشوه الكتل المنتهكة في قاعدة اللوحة.
في مقابلة مصورة مع الفيلسوف الفرنسي برنار ستيكلير تحدث هذا المتخصص في الطفرات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية المتصلة بنظام العولمة، عن حالة ريشار دورن، الذي قام بتصفية العشرات من الناس في محيط نانتير بمسدس رشاش، قبل سنتين، والذي امتلك يوميات دوّن فيها بعض انطباعاته بصدد تفاصيل حياته، لقد كان صاعقا ما تضمنته من سعي لإثبات العودة إلى الحياة الطبيعية من خلال ممارسة عنف جهنمي، كان نموذجا مصغرا لما يعتم في داخل أغلب المنتمين إلى ثلاثة أرباع البشرية الفقيرة والمأزومة اليوم، التواقة إلى التدثر بالأصفر الفاقع.