مخرج سوري يرى الأفلام مثل القصائد

تنقل المخرج السوري ثائر موسى بين بلدان مختلفة، مقدما تجربة فنية لها بصمتها. “الجديد” التقته في لندن، مقر إقامته الحالي، صحبة رفيقة دربه الممثلة السورية عزة البحرة. ودار الحوار حول أفكاره وتطلعاته السينمائية، لاسيما من خلال آخر أعماله فيلم “مزار الصمت”.
لندن- ثائر موسى سينمائي سوري درس الإخراج السينمائي في المدرسة العليا للسينما في وودج/ جمهورية بولونيا، من بواكير أعماله بعد عودته من بولونيا إلى سوريا فيلم وثائقي بعنوان “فواز الساجر، حياة رغم موت الآخرين”، لكن الرقابة في سوريا منعت عرض الفيلم، فقرر ترك سوريا والعودة إلى بولونيا.
أخرج موسى بالشراكة مع المخرج التونسي الراحل شوقي الماجري فيلما بعنوان “في الطريق إلى الجنة”، وهو وثائقي عن المهاجرين العرب في بولونيا. عاد إلى سوريا بعد رحلة أوروبية مديدة اشتغل خلالها في الإخراج التلفزيوني، ليكتب ويخرج فيلما روائيا تلفزيونيا بعنوان “الغفران”. كما أخرج سلسلة وثائقية مؤلفة من 5 أفلام، بعنوان “أعمدة النور” عن المعالم والكنائس المسيحية في سوريا، بثها التلفزيون السوري بمناسبة زيارة بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني إلى سوريا عام 2001.
كتب موسى وأخرج فيلما سينمائيا قصيرا بعنوان “سفر الأجنحة”، والفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا. كما أخرج فيلما وثائقيا عن الشاعر والكاتب المسرحي ممدوح عدوان بعنوان “مازال بيننا”. وفي الدراما التلفزيونية السورية أخرج ثلاثة مسلسلات هي “الموءودة، لورنس العرب، الهروب”. كما أخرج مسلسلين عراقيين هما “البيت المنسي، ذاكرة وطن”، وكتب سيناريو وأخرج الفيلم الروائي “مزار الصمت” الذي تم تصويره مؤخراً في تونس.
نتطرق في الحوار إلى “مزار الصمت” فيلم موسى الروائي الذي مثلته كوكبة من الممثلين العرب على رأسهم الممثل الفلسطيني محمد بكري، وجرى تصويره في تونس، ويتناول الفيلم تحولات حياة أنثى من الشرق – سوريا غداة اندلاع الثورة السورية وتحولها إلى تراجيديا دموية ومأساة إنسانية كبرى.
الحب الخالص
الجديد: أول ما يمكن ملاحظته وتتبعه والعيش معه في فيلمك “مزار الصمت” هو البعد الشعري، فالمشاهد السينمائية وحركة الشخصيات في تلك المشاهد تنتج في حواس المشاهد حالة من الانطباع الشعري، حتى لكأننا في بعض الحالات أمام أجزاء من قصيدة بصرية؟ حدثني عن هذا التطلب الجمالي لديك؟
ثائر موسى: يسعد قلبي جدا الانطباع الذي خرجت به من الفيلم، فأنا حقا هكذا أرى السينما؛ قصيدة مكتوبة بالصورة، ويمكن القول منحوتة بالصورة، وهذا ليس من باب التزيين اللغوي، بل هو درب لا أحيد عنه في كل فيلم يتيسر لي إنجازه، والواقع أن تعبير “لا أحيد عنه” قد لا يكون الأمثل في حالتي، إذ يعكس قرارا واعيا أسير على هدي منه، والحقيقة غير ذلك، فالسينما الشاعرية تتسرب من كياني دون وعي يراقبها أو يشذبها، هي حالة من اللاوعي يسبح فيها الفيلم كقارب سلّم نفسه بسلاسة لأمواج تصعد به وتهبط، لتصنع إيقاع هذا الفيلم، موسيقاه، صوره، ألوانه، ظله ونوره، وبكلمة مختصرة قصيدته، تلك القصيدة التي تكوّنها فسيفساء متشابكة من ذاكرة مبعثرة هنا وهناك، ومن أحلام لا تدري مصدرها؛ أهو الدماغ؟ أهو العقل الباطن، أم ذاكرة جمعية لأجيال؟ أهي أساطير الأسلاف، أم مخيلة الصغار؟
وفي كل هذا يأتي الصمت بمثابة خيوط الحرير التي تشبك كل تلك العناصر، فالقصيدة السينمائية لا تستوي دون الصمت، الذي لا يعني فقط غياب الكلمات، بل أولا وقبل كل شيء يعني إعطاء فسحة للكينونة الكلية كي تتأمل، ولحظات للعين كي تتبصّر، وفرصة للقلب كي يتناغم بنبضاته مع الإيقاع الداخلي سواء لمشهد بحد ذاته أو مع عموم إيقاع الفيلم. باختصار شديد أرى السينما قصيدة شاعرية لأرواح تسمو بصمت.
هذا عن السينما عموما، ولكني بالحديث عن “مزار الصمت” تحديدا أود الإشارة إلى أن الصمت في الفيلم ليس عائدا أبدا إلى أن بطلة الفيلم “ليلى” تقرر الصمت، لا، أبدا، فالصمت ستراه في أيّ عمل آخر لي، مع العلم أن الجميع يتحدث، وليس هناك ما يشبه صمت ليلى؛ فالمسألة إذن تكمن في مفهومي عن الصمت في الفيلم السينمائي، وفي كون الصمت، كما أفهمه، هو جزء لا يتجزأ من الشريط الصوتي للفيلم، وجزء من بناء الرؤية الصوتية في الفيلم، من حوارات ومؤثرات سينكرونية وغير سينكرونية، ومن موسيقى، وبالتالي، وأيضا، من صمت.
الجديد: ما الدافع الفكري الذي حملك على أسطرة الأنثى في فيلمك وإحاطتها بشيء من القدسية في مناخ صوفي؟
ثائر موسى: في الواقع هو ليس دافعا فكريا، وهي ليست أسطرة، وإن سألتني عن التوصيف الأدق لعجزت عن التحديد. هي المرأة جدتي الريفية، التي كانت تأتي لزيارتنا في المدينة وأنا صبي صغير، فتسحرني صبيا حين أراها أمام المرآة تلف حول رأسها منديل الريف الأبيض المطرز، وأحتار حين أرى أمي التي أعشق، تذهب إلى عملها دون منديل على رأسها، فأتساءل في قرارة نفسي من منهما الأصح، وأستعمل هنا كلمة الأصح لأنهما، في عيني، كانتا جميلتين على حد سواء.
وهي المرأة عمتي أرملة “القديس”، والتي حين أفكر فيها يخطر ببالي غابرييل غارسيا ماركيز، فلو عرف قصتها لكانت إحدى بطلات رواياته. وهي المرأة خالتي المقهورة على ابنها الذي استشهد في القصف الإسرائيلي الذي استهدف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، ولم يسمح لها حافظ الأسد بدفن ابنها في سوريا، فكانت تذهب سنويا لزيارة قبره في الأردن.
وهي مؤخرا المرأة السورية التي رأيت آلامها، وخلعت قلبي مآسيها بسبب الحرب القذرة التي شنت على أولاد المرأة السورية، على أبنائها، وإخوانها، وأزواجها، وكل ذلك رأيته معاناة تبدأ من الألم اليومي، لتنتهي في مصاف طريق العذاب التي سلكها المسيح. إنها درب الأشواك الذي قطعته المرأة السورية، لكنها لم تسمح بأن تصلب، فمضت تضمد جروح الجسد، وقبلها جروح الروح، وما فيلمي “مزار الصمت” إلا انحناءة أمام تلك المعاناة، وقد يكون القول الأفضل بأنه ركوع في حضرة أرواح السوريات المعذبات، ومن هنا يبرز مفهوم القداسة الذي ظهر في الفيلم، فليلى افتداء لأخيها، وروح مباركة لابنة زوجها، وحياة لأرض عطشى، ومطر يقطر من تصوفها.. إنها الحب الخالص الصافي الذي غمر حتى قلب معذبها / زوجها فغدت ذكراها ألمه وخلاصه، قلبه المخلوع لفقدانها، وروحه التي سمت بمرورها في حياته.
خارج المكان
الجديد: لفتتني شخصية محمد بكري في الفيلم، وطريقة أدائه لها. حدثني عن تجربتك معه في “مزار الصمت”.
ثائر موسى: بدأت الصلة مع الممثل القدير محمد بكري حين حصلت على عنوان بريده الإلكتروني من صديقي المخرج والمنتج التونسي فيصل الحصائري، والذي له فضل كبير في الدعم الإنتاجي لإنجاز “مزار الصمت”، وهكذا أرسلت إلى محمد رسالة ومعها سيناريو الفيلم، فقرأها ليعود لي بدفق كبير من الانفعال للفيلم ولشخصية ليلى، وأيضا برغبة عارمة في لعب دور “زيدان”.
بعد ذلك كان لقائي الأول مع محمد بكري في إسطنبول، حيث أتانا إليها قادما من فلسطين، وكانت أحاديثنا الأولى حول السيناريو عموما، وحول دوره بالخصوص، وكان وقتا طيبا قضيناه هناك ليتعرف واحدنا على الآخر.
حين أتى وقت تصوير الفيلم، وكان ذلك في تونس، قدم محمد خلال فترة التحضيرات، وقمنا بالعديد من جلسات القراءة للسيناريو بمساهمته ومساهمة الممثلة التونسية نور حجري، التي قامت بدور ليلى، وقمنا بكل التعديلات أو التغييرات التي مهدت لنا الأرض لتعامل واضح مع الشخصية أثناء فترة التصوير. وهنا تجدر الإشارة إلى أننا، لأسباب إنتاجية ولوجستية، دخلنا التصوير ابتداء من أصعب “بلوك” في تصوير مشاهد شخصية زيدان، أي في الغرفة التي انتقل زيدان للعيش فيها، والتي هي الحامل الرئيسي لكل ما سوف نشاهده لاحقا في الفيلم من تغيير، سواء المكاني أو الفيزيولوجي أو النفسي، الذي طرأ على شخصية زيدان، هذا ناهيك عن الفاصل الزمني الذي يربط الوقت الحالي للفيلم بما مضى من أحداث.
كل ذلك جعل من المهمة أصعب، سواء على الممثل الذي يبدأ التصوير من أقصى درجات تصاعد حالته النفسية، أو على المخرج الذي عليه أن يكون عينا صائبة لكل خلجة روح ترتسم على وجه الممثل، ولكل أداء يجب أن يكون موزونا بدقة في سياق الانتقال بين الماضي والحاضر. ولعل أهم ما يمكنني أن أصف به تعاوني مع الفنان محمد بكري هو الثقة المتبادلة بيننا، فهو لجهة ثقته بي كان آذانا صاغية لكل ملاحظة كنت أطلب فيها بعض التعديلات في أدائه، وأنا بالمقابل كنت أتيح له وبكل أريحية ما كان يطلبه أحيانا، إذ أنه بعد رؤيته رضاي عن تصوير المشهد كان يطلب مني “دوبل” إضافي يريد هو أن يؤديه بإحساس آخر في تلك اللحظة، وليترك لي لاحقا القرار بين ما قبلته وما أدّاه من تلقاء نفسه، وكان قراري النهائي يتخذ أثناء مونتاج الفيلم. ببساطة كان العمل مع محمد بكري متعة حقيقية، وأجزم أنه كان واحدا من الأعمدة المهمة التي قام عليها الفيلم.
الجديد: أثارتني فكرة هوية المكان الذي تدور فيه الأحداث، إنها تكاد تكون مصرحا بها تصريحا غير ناجز ولا مكتمل… ما السبب في ذلك؟
ثائر موسى: الأحداث تدور في أحد بلدان اللجوء المجاورة لسوريا، والتي تشتت فيها السوريون هربا من الطغيان، وبالتالي فإن بلد الأحداث يمكن أن يكون الأردن أو لبنان أو تركيا، والحقيقة أن ما رأيناه في الفيلم كان يمكن بالفعل أن يتم في أي بلد من تلك البلدان.
من جهتي، كمخرج للفيلم وأيضا ككاتب للسيناريو، قررت ألا أفصح صراحة عن بلد الأحداث، وذلك أولا كي تتخذ الأحداث طابعا عاما، والمأساة بعدا جغرافيا واسعا لا يرتبط بمكان، وثانيا لأن تحديد المكان بصراحة سيدفع بعض المشاهدين إلى محاولة المقارنة الواقعية إن كانت هكذا قرية يمكن أن تكون في هكذا بلد، أو إن كانت ظروف اللجوء التي شاهدناها في الفيلم مطابقة للصورة في ذهن المشاهد عن ظروف اللجوء في هذا البلد أو ذاك.
الفيلم هو رحلة مأساوية لكينونة أنثوية، تعاني منها فتاة سورية نكبتها الحياة بغربتين؛ الأولى كانت هربها مع أمها من المقتلة التي ارتكبها النظام بحق أبناء شعب سوريا، والثانية، الغربة الأصعب، في بعدها عن أمها، الوحيدة التي بقيت لها في هذه الحياة، وقذفها إلى قرية الزوج، حيث الوحدة المطلقة، والمعاناة التي انتهت بمصير ليلى الذي نراه في نهاية الفيلم.
لهذا أعتقد أن خياري الواعي بألا نحدد هوية البلد الذي جرت فيه الأحداث كان صحيحا، وأن هكذا خيارا سيساهم في جعل الفيلم مقبولا بغض النظر عن البلد الذي قد يخطر في بال المشاهد. وضمن هذا السياق أعتقد أن فيلم “مزار الصمت” سيكون متحررا ليس فقط من الجغرافيا، ولكن أيضا من مرور الزمن، فهو فيلم يمكن أن تشاهده الآن، وبعد سنة، وبعد عشر سنوات، إذ لا يلتزم الفيلم بمكان أو زمان، ولن أستفيض هنا بشرح وجهة نظري هذه، بل سأترك للمشاهد أن يحكم بنفسه حين يشاهد الفيلم سواء الآن أو في زمن قادم.
الآباء والروح السينمائية
الجديد: أنت ابن مدرسة وودج البولونية في السينما من حيث الدرس والتأسيس الأكاديمي، ولكن كيف تطور مفهومك الشخصي للسينما، ومن هم آباؤك السينمائيون الأكثر تأثيرا في إنتاج ميولك الجمالية في السينما؟
ثائر موسى: لا بد لي في البداية من القول إنني أعتبر نفسي محظوظا جدا إذ أتيحت لي فرصة الدراسة في المدرسة العليا للسينما في مدينة وودج ببولونيا. تلك كانت واحدة من أهم المدارس في أوروبا بشرقها وغربها، بل لا أبالغ أبدا إن قلت في العالم قاطبة، وأذكر أن المدرسة كانت قبلة لكل من رغب في تحصيل أكاديمي سينمائي عالي المستوى، من أوروبا الشرقية والغربية، ومن أميركا الشمالية واللاتينية، ومن آسيا وأفريقيا.
في المدرسة العليا للسينما بوودج قدمت لنا من الإمكانات أضعاف ما كان يحصل عليه الطالب في المدارس الغربية سواء في إنجلترا أو فرنسا أو ألمانيا الغربية في ذلك الوقت، وهذه إحدى المحاسن الكبرى للنظام الاشتراكي الذي كان سيئا في الكثير من الأمور، ولكن الإنصاف يقتضي القول بأن هذا النظام قدم الكثير لدعم الثقافة والفنون، ومن بين ذلك المدرسة العليا للسينما، وأصبح اسم “مدرسة وودج” ماركة مسجلة، وعلامة فارقة في مدارس السينما في العالم.
أما عن سؤالك حول تطور مفهومي الشخصي للسينما، فيمكن القول إنني شفيت من لوثة السياسة في السينما، ولكي أوضح هذا “الشفاء” أقول إن علاقتي بدأت من رغبتي، كشاب يساري الفكر، في الوصول إلى طرح “القضايا الكبرى” من خلال منبر واسع الانتشار كالسينما، وهذا ما جعلني أفكر في دراسة الإخراج السينمائي.
هكذا كانت البداية، وإلى تحقيق هذا الهدف توجهت، وأذكر أن الدخول إلى “مدرسة وودج” كان كما يقال “أصعب من دخول إبليس الجنة”، فقد كان امتحان الدخول يقترب من التعجيز، بشروطه القاسية جدا، ومتطلباته الأكبر والأوسع بكثير مما ظننت، وللعلم فقد قضيت سنتين متواليتين في بولونيا، وأنا أتحضر لامتحان الدخول ذاك، حيث كانت المدرسة تقبل ثلاثة طلاب أجانب فقط في السنة، وكنت في ترتيب النجاح بالامتحان، الثالث، أي أن شعرة رقيقة كانت تفصلني عن عدم النجاح، وقد كنت دائما أمزح بالقول إن بركات الرفيق الأعلى كارل ماركس هي التي ساهمت في دفعي نحو النجاح في الامتحان.
لكن الذي حدث لاحقا أنني خيبت أمل ماركس، ومعه الرفيق لينين، وبدأت شيئا فشيئا أشعر بضرورة فهم السينما كفنّ خاص بعيد عن الأيديولوجيا، ولا شك أن وجود أساتذة السينما البولونيين الرائعين قد ساهم بشكل رئيسي في أن أفتح الباب لسينما الروح، وأبتعد عن سينما الأيديولوجيا، وأعتقد أن تلك كانت نقطة الانعطاف الرئيسية في حياتي كسينمائي، سواء كطالب حينها أو لاحقا كمخرج سينمائي محترف، وأود الإشارة هنا إلى أن أساتذتي في المدرسة العليا للسينما كانوا أيضا مخرجين عاملين في السينما البولونية، بل كانوا أبرز المخرجين في بولندا ذلك الوقت، سواء في السينما الروائية أو الوثائقية.
أما عن “آبائي” السينمائيين فإني أعتبر أن الروسي أندريه تاركوفسكي والسويدي إنغمار برغمان هما أعظم من أنجبتهما السينما على مر التاريخ، وهما، رغم الاختلاف بينهما في الأسلوب، أقرب السينمائيين إلى قلبي، مع ضرورة التأكيد على أني أعشق أيضا أفلام الإيطالي فيدريكو فيلليني، والياباني أكيرا كوروساوا، وأنا أسمّيهم الآباء الأربعة للسينما في القرن العشرين، وطبعا هنا أتحدث عن السينما الناطقة، وإن كنت من باب الأمانة التاريخية، والإعجاب الشديد، أود أن أشيد بعملاقي السينما الصامتة: الروسي سيرغي ايزنشتين، والإنجليزي – الأميركي شارلي شابلن. طبعا هما اشتغلا لاحقا بالسينما الناطقة، ولكن السينما الصامتة هي التي ساهمت في ولادة هذين السينمائيين الكبيرين.
الجديد: ما هو المشروع التالي بعد “مزار الصمت” وإلى أين يؤشر عمليا في موضوعه؟
ثائر موسى: الواقع أطمح لإنجاز ثلاثية سينمائية Trilogy عن معاناة وتضحيات النساء السوريات في سوريا وخارجها بسبب الحرب التي شنها النظام السوري على شعبه منذ 2011 ومازالت تبعاتها مستمرة حتى يومنا هذا.
لهذا فإن فيلم “مزار الصمت” يشكل الفيلم الأول من هذه الثلاثية، أما الفيلم الثاني فسيكون بعنوان مبدئي “وجها لوجه” وأتطلع إليه كخطوة أخرى في تسليط الضوء على درب الآلام للمرأة السورية، وانحناءة ثانية مني، احتراما وتضامنا مع النساء في بلدي، اللواتي أجبرتهن الحرب على الهرب بحثا عن أمان في بلاد اللجوء، هذا الأمان الذي لن يعرفنه، سواء في فيلمي الذي أنجزته “مزار الصمت” أو في مشروعي القادم “وجها لوجه”.
وإن كانت أحداث الفيلم الأول تجري في بلد عربي، فإن المشروع التالي ستجري أحداثه في بلد أوروبي؛ أحد البلدان التي لجأ إليها السوريون في شتاتهم.
تجابهني بالطبع، كما جابهتني سابقا في “مزار الصمت”، مشكلة إيجاد التمويل للفيلم، خاصة وأنني مضطر إلى القول، وبكل أسف، إن القضية السورية لم تعد تشكل ما يسمى “ترند”، وهي الكلمة التي أبغضها حين نتحدث عن معاناة الشعوب، وعن العذاب والقتل اللذين يعاني منهما البشر في أرجاء مختلفة من العالم.
اليوم، وببالغ الأسى، ألاحظ انصراف العالم عن الاهتمام بمعاناة السوريين ضمن البلاد وخارجها، تاركين بذلك هذا الشعب نهبا لنظام دكتاتوري، ولدول أخرى تساند هذا النظام تبعا لمصالحها، بينما يصم العالم روحه، ولا أقول أذنيه، عن واحدة من أكبر الجرائم التي ارتكبت بحق الشعوب، ومن يعرف أن الملايين من السوريين قد أجبروا على ترك بلادهم وأن قسما كبيرا من هؤلاء المهجرين مازالوا بعد 12 سنة من التشرد يعيشون في خيام لا تقيهم بردا ولا حرا سوف يستوعب مدى فداحة الجريمة التي اقترفها النظام السوري.
من هذا المنطلق أجد لزاما عليّ كسينمائي أن أعبّر عن مأساة شعبي السوري، ولكن طبعا ضمن فيلم سينمائي أحاول الوصول به إلى لغة فنية راقية، فالسينما بالنسبة إليّ كانت، وستبقى، هي السؤال ليس فقط ماذا تريد أن تقول؟ ولكن أيضا، وأساساً كيف تريد أن تقول ذلك؟ كيف تحوّل ما يعتمل في نفسك إلى عمل فني، يتجاوز الحدث الآني، ليدخله إلى آفاق سينمائية راقية بصيغتها ونسيجها الفني.
الجديد: منذ عودتك من بولونيا إلى سوريا عانيت كثيرا كسينمائي مستقل، وقد فرضت عليك ظروف قاسية أن تبتعد عن السينما وتعمل في المجال التلفزيوني، وأن تقيم في بلدان عدة، بريطانيا وإيطاليا والخليج العربي وبولونيا نفسها…حدثنا عن أثر هذه السيرة المضطربة مع اختلاف المكان والرياح المعاكسة على سيرتك السينمائية؟
ثائر موسى: بدأت مشاكلي مع الرقابة في سوريا منذ العمل الأول في حياتي، وكان ذلك فيلما وثائقيا أنجزته عن المخرج المسرحي الراحل فواز الساجر، وكان ذلك في عام 1988 حيث كنت شابا صغيرا قد عاد للتو من بولونيا بعد تخرجي من المدرسة العليا للفيلم في وودج.
لقد منعت الرقابة المسعورة والقائمون على إدارة التلفزيون السوري عرض ذلك الفيلم حينها، فاتخذت قراري بعدها بضرورة الإسراع في ترك البلد، وعدم تضييع العمر مع نظام قمعي أفصح لي عن أنيابه مع أول فيلم أخرجته، ورغم أنني عدت إلى سوريا بعد عشر سنوات من خروجي، إذ كانت روحي تلح عليّ بضرورة إنجاز مشروعي السينمائي في سوريا، إلا أنني قضيت خمس سنوات أحارب فيها لإنتاج فيلم روائي سينمائي، وكان جل ما استطعته في السينما هو إنجاز فيلم سينمائي قصير بعنوان “سفر الأجنحة” وبقيت بعدها سنوات أحاول إنجاز فيلم روائي طويل ولكن دون نتيجة، ما اضطرني بعد خمس سنوات من شظف العيش إلى “الاستسلام” والقبول بدخول معترك الدراما التلفزيونية، وقد حاولت في المسلسلات التي أنجزتها أن أنقل بعضا من روح السينما إلى التلفزيون، وكل من يشاهد أعمالي التلفزيونية سيشعر بطيف السينما فيها.
مع ذلك قد تستغرب إن قلت لك إن ما سمّيته في سؤالك “السيرة المضطربة مع اختلاف المكان والرياح المعاكسة” لم يؤثر في الواقع على سيرتي السينمائية، ولعل الأصح أن أقول بأنه لم يؤثر على روحي السينمائية، ولم يغير مفهومي للسينما، فالقصيدة السينمائية كانت دوما مرافقة لكل ما أنجزت على قلّته، والروح الشاعرية تراها في أيّ عمل أنجزته سواء في سوريا أو بولونيا أو تونس، أو ما أعمل عليه الآن من مشاريع سينمائية قادمة. السينما باعتبارها فنّا واضحة جدا في ذهني، وما أكتسبه مع الزمن وتغيير الأمكنة هو الخبرة سواء الحياتية أو ما تعلق بتحسين “أدوات العمل”.
أما جوهر الفن السينمائي فواضح في ذهني وضوح الكريستال الصافي النقي من أيّ شوائب، ولهذا قلت لك أعلاه إنني كنت محظوظا بالدراسة في “مدرسة وودج” العظيمة. هناك نحت الأساتذة الكبار روحي السينمائية، وهناك فتحت أمامي الأبواب على فضاءات ستظل “مراكبي السينمائية” تتجول فيها حتى آخر فيلم لي، وآمل أن وقتا طويلا مازال أمامي، وأعمالا سينمائية عديدة سأنجزها، وإن كانت المشاريع التي وضعتها أمامي على الورق تحتاج إلى حيوات وحيوات حتى أحققها.
