مخاوف من "احتلال" العملات المشفرة للدول وقتل عملاتها

انهالت التحذيرات الكارثية من عواقب عملة فيسبوك “ليبرا” على النظام المالي العالمي منذ الساعات الأولى للكشف عنها. وقد وصفها مشرعون ومسؤولون ماليون ومحللون بأوصاف شتى تتراوح بين كونها معيبة ومخيفة ومرعبة.
وتتمحور المخاوف حول أن العملة يمكن أن تفتح أبواب النظام المالي العالمي على مصراعيه وتقوّض أركان السلطات المالية التقليدية، خاصة أن فيسبوك حشدت 28 مؤسسة عالمية في اتحاد متين لإدارة العملة بينها مؤسسات فيزا وماستر كارد وأوبر وإيباي وباي بال وفودافون وسبوتيفاي.
ووصف المؤسس المشارك لشركة فيسبوك كريس هيوز في مقال رأي نشرته صحيفة فايننشال تايمز الأسبوع الماضي، إمكانية نجاح عملة فيسبوك المشفرة بأنها “مرعبة” لأنها ستنقل التحكم بالسياسة النقدية من البنوك المركزية إلى قبضة الشركات الخاصة.
وأضاف “إذا لم تتحرك الهيئات التنظيمية العالمية فورا، فسوف يفوت الأوان”، لأن الشركات التي سوف تشرف على العملة الجديدة ستضع مصالحها الخاصة وتعزيز الأرباح والنفوذ، فوق المصالح العامة.
مخاوف انهيار الدول
تبدو الصورة لأول وهلة براقة ومغرية حيث يتم إنشاء تطبيق يتيح للمستخدمين تحويل الأموال وتسديد المشتريات والفواتير بتكلفة زهيدة في ظل وجود 2.4 مليار مستخدم لموقع فيسبوك، الأمر الذي يجعلها أكثر قدرة على تحقيق جميع أحلام العملات المشفرة بسرعة فائقة.
لكن العملة المقترحة يمكن أن تقوض العملات السيادية لجميع الدول باستثناء دول العملات الرئيسية التي سترتبط ليبرا بها، ويمكن أن تؤدي لانهيار قدرة الحكومات على تمويل فرض الأمن والاستقرار وتقديم الخدمات العامة حين تجد خزائنها خالية من الأموال.
وقال هيوز، الذي شارك مارك زوكربيرغ في تأسيس فيسبوك إن “ليبرا ستؤدي إلى تعطيل وإضعاف الدول القومية من خلال تمكين الناس من الخروج على العملات المحلية غير المستقرة، إلى عملة مقومة بالدولار واليورو، وتديرها الشركات”.
وأضاف أنه “كلما انخفض عدد الروبيات أو الليرات أو الدنانير التي يحتفظ بها مواطنو الدول، فسوف تتقلص قوة البنك المركزي الوطني في وضع السياسة النقدية وتمويل الحكومة، إضافة إلى انحسار القدرة على تحفيز الاقتصاد في أوقات الأزمات”.
وهذا ليس أول موقف معارض لفيسبوك من هيوز، حيث سبق أن دعا في مايو الماضي إلى تفكيك الشركة في مقال رأي نشرته صحيفة نيويورك تايمز. وتلقت الدعوة تأييد مشرعين أميركيين لتفكيك شركات التكنولوجيا الكبرى بسبب خطورة نفوذها المتعاظم.
جبهة عالمية مضادة
ويختزل بنك التسويات الدولية، الذي يعد البنك المركزي لجميع البنوك المركزية حجم المخاوف بتأكيده أن ليبرا تهدد بهدم النظام المالي العالمي وتقوض السلطات النقدية السيادية.
وفي واشنطن طالبت ماكسين ووترز رئيسة لجنة الخدمات المالية بمجلس النواب الأميركي حكومة بلادها بإجراء المزيد من الدراسة لمخاطر عملة فيسبوك قبل السماح لها بالتداول.
ودعت مسؤولي فيسبوك لتقديم شهادات أمام الكونغرس. وردت شركة فيسبوك بأنها مستعدة للإجابة عن أسئلة الكونغرس مع تقدم إجراءات إصدار العملة. لكن ووترز طالبتها بوقف تطوير عملتها إلى أن يتمكن المشرعون والمنظمون من دراسة المشروع واتخاذ الإجراءات اللازمة.
وأكد السيناتور شيروود براون أن “الولايات المتحدة لا يمكن أن تسمح لفيسبوك بإطلاق عملة رقمية جديدة محفوفة بالمخاطر”.
وفي أوروبا، حذر رئيس البنك المركزي الألماني ينس فايدمان من أن مجرد استخدام عملة مثل ليبرا على نطاق واسع، فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى انهيار النموذج الاقتصادي للبنوك التقليدية.
وكشف وزير المالية الفرنسي برونو لومير أنه طلب من رؤساء البنوك المركزية في دول مجموعة السبع إعداد دراسة عن مشروع فيسبوك بحلول منتصف الشهر المقبل. وقال إن “هذه العملة يجب ألا تصبح عملة ذات سيادة، وأنه لا يمكن أن يحدث ذلك ويجب ألا يحدث”.
مخاوف المصارف
ونسبت الصحيفة في تقرير منفصل إلى ديفيد يرماك، أستاذ المالية في جامعة نيويورك قوله إن عملة فيسبوك تمثل هجوما كاسحا وشاملا على النظام المالي ولا يمكن مقارنتها بمشاريع المدفوعات المحدودة مثل التي قامت بها أبل عبر هواتف آيفون.
وأضاف أن التهديد للبنوك الحالية شديد للغاية لأن فيسبوك وكذلك شركات أخرى مثل غوغل وأمازون، التي يمكن أن تسير على ذات الطريق، تملك مزايا لا تملكها المصارف وهي تيسير التعاملات بتكلفة أقل وإمكانية جذب المليارات من الأشخاص إلى منصاتها.
وتتسع الآن جبهة معارضة لعملة فيسبوك بين لحظة وأخرى لتضم أعدادا متزايدة من السياسيين والمصرفيين، وهي تستخدم أسلحة هجوم كثيرة للطعن بمشروع عملة ليبرا، خاصة مصداقية فيسبوك الملطخة بالكثير من فضائح انتهاك الخصوصية واستخدامها من قبل أطراف في التدخل في الانتخابات الأميركية.
ويبدو طموح الشركة مخيفا لأنه بلا حدود، حيث أكد كيفن ويل، نائب رئيس خدمة الدفع المقترحة أنها تسعى للوصول إلى المليارات من الأشخاص وأن تستمر العملة الجديدة “مئات السنين” وهو ما يشحذ سكاكين خصومها.
ويحاول مسؤولو فيسبوك جاهدين للتأكيد على أن خدمات ليبرا المالية سوف تلتزم باللوائح التنظيمية للبلدان التي ستعمل فيها، لكن من الواضح أنها تأمل في تجنبها، وهو ما يثير مخاوف السياسيين والقطاع المالي.
هناك تشكيك أيضا في تعهد فيسبوك بالاحتفاظ بالمعلومات المالية لمستخدميها منفصلة وعدم استخدامها لاستهداف الإعلانات، لكنها تركت الباب مفتوحا لإمكانية مشاركة البيانات مع خدمات أخرى إذا اختار المستخدمون ذلك.
لكن الخبراء يقولون إن تلك التعهدات والقيود لن تمنع خدمة مثل تطبيق واتساب من معرفة متى يقوم المستخدم بالدفع والجهة التي يدفع لها، الأمر الذي ينتهك خصوصية الأفراد.ويرى مات ستولر، الزميل في معهد أوبن ماركتس وهو مجموعة ضغط في واشنطن تعارض النفوذ المفرط للشركات، أن وضع الكثير من البيانات في قبضة الشركات يثير مشكلة كبيرة في ظل إخفاقاتها الكثيرة.
ويحذر من أن شركة فيسبوك ستستفيد من موقعها المهيمن كشبكة للتواصل الاجتماعي للانتقال إلى سوق جديد، وهو أمر قد يتعارض مع القواعد التنظيمية لمكافحة الاحتكار.
في المقابل هناك حماس شديد لدى فريق آخر يؤمن بإمكانية نجاحها بسبب حقيقة استناد عملة فيسبوك إلى دعم 28 شركة ومؤسسة كبيرة، رغم التحديات السياسية والتنظيمية الواضحة التي تواجهها.
قوة ليبرا المخيفة
رغم جميع إخفاقات فيسبوك فإن قاعدة المستخدمين الهائلة، يمكن أن تفتح لها الطريق لإدخال العملات المشفرة في قلب النظام المالي. وقد أثار آمالا كبيرة في وادي السيليكون لجيل جديد من الخدمات المالية، يمكن أن يدعم نموه في المستقبل.
وهناك مخاوف أخرى تتعلق بطبيعة العملة وما إذا كانت ستركز الكثير من القدرات المالية في قبضة مجموعة مختارة من الشركات الكبرى. لكن اتحاد ليبرا يقول إن العملة تعتمد تقنية بلوك تشين التي تتيح لجميع المشاركين الاطلاع على تسجيل المعاملات.
كما أن لعملة ليبرا مخاطر أعمق تتعلق بتعارض قدرة البنوك المركزية على مراقبة أنظمتها المالية وهو ما يثير إمكانية أن تحاول الحكومات والسلطات المالية التنظيمية خنقها عند الولادة.
وقد أكد مارك كارني، محافظ بنك إنكلترا (المركزي البريطاني) أن المخاطر النظامية المحتملة في نظام مثل عملة ليبرا سوف يتطلب إخضاعها لأعلى مستويات التدقيق.
ويحذر مصرفيون من أن العمل خارج القنوات المصرفية العادية، قد يجعل من الصعب على الحكومات السيطرة على المدفوعات العابرة للحدود أو فرض عقوبات ضد أطراف أجنبية وهو ما يفتح أبواب تمويل لجماعات إرهابية وخارجة على القانون.
ويقول ستولر إن “أي عملة موازية سوف تقوض المؤسسات السيادية التي تسيطر على العملة”، ويؤكد خطورة ليبرا لأنها ليست طرفا هامشيا متسكعا يتعامل بعملة مثل بتكوين، بل هي اتحاد يضم جهات عملاقة مثل فيزا وماستر كارد!
وفي الوقت الذي يأمل فيه اتحاد ليبرا أن يختار عدد كبير من سكان الدول النامية الاحتفاظ بأموالهم بتلك العملة بدلا من عملات بلدانهم، تتصاعد المخاوف من إضعاف قوة السلطات المحلية، التي ستتراجع قدراتها المالية مع نزوح التعاملات إلى ليبرا المدعومة ضمنيا بعملات رئيسية مثل الدولار واليورو.
ولذلك ينبغي أن ترتفع المخاوف لدى البلدان الفقيرة وجميع البلدان التي لن تكون عملاتها ضمن سلة العملات التي سترتبط بها قيمة ليبرا.
وجاء أكبر تحذير في هذا الإطار من توماس أدريان المسؤول في صندوق النقد الدولي، حين حذر من أن “البلدان ذات العملات الضعيفة ستجد صعوبة في مواجهة الأزمات الاقتصادية وقد تستولي عليها وتحتلها العملات الإلكترونية الأجنبية”.
ويبدو العالم في مخاض غامض بشأن مستقبل العملات الرقمية، وقد تتعرض ليبرا لعقبات كبيرة بسبب مخاطرها على استقرار الدول والنظام المالي العالمي، لكنها في نهاية الأمر قد تتخذ أشكالا جديدة لا يمكن إيقافها.
وتجمع الآراء على أن سدود النظام المالي العالمي وصلت إلى لحظة احتقان كبرى، وأن التطورات التكنولوجيا تفرض انفتاحه وزوال الحدود للتعامل مع الثورة الصناعية الرابعة لتسهيل تطبيقات الذكاء الاصطناعي حيث تقوم الآلات بالكثير من مهام البشر، وقد تحتاج لتسديد بعض المدفوعات دون إذن من البشر.
قد لا تلعب ليبرا دورا أساسيا في صناعة المستقبل الذي يراود المبتكرين وقد تؤدي المخاوف بشأن فيسبوك إلى جانب العقبات التي تضعها السلطات العميقة في النظام المالي التقليدي إلى فشلها. لكن انتشار أنظمة النقود الرقمية أمر لا يمكن الجدال فيه ولا يمكن إيقاف طوفانه في المستقبل القريب.
الحل الشامل
ربما يكون الحل في تبني المصارف المركزية لهذه التحولات وهو ما ظهرت بوادره في اتجاه بعضها للتخطيط لإصدار عملات رقمية، تولد من رحم النظام المالي التقليدي ولا تتمرد عليه.قد يتيح الجدل بشأن مستقبل العملات الرقمية فرصة لطرح حل شامل لمشاكلها ومشاكل النظام المالي التقليدي بإصدار عملة عالمية رقمية تشارك فيها جميع دول العالم ولا تكون مرتبطة بأي عملات سيادية.
تلك الفكرة ستقدم حلا سحريا، حيث لا يكون هناك رابحون وخاسرون، ولا يكون النظام المالي العالمي في قبضة أي دولة أو شركة لا تعنيها المصالح العامة لمستقبل الكوكب.
لكن ذلك الحل الشامل سيواجه حتما معارضة أميركية لأنها لن تتخلى عن نفوذ الدولار، مثلما عارضت اقتراحات من الصين وروسيا بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 بإصدار عملة احتياطية عالمية يشرف عليها صندوق النقد الدولي بعد إصلاحه وتقليص هيمنة واشنطن عليه.