محمد عفيفي مطر وعذاب الموهبة
في بيته في الأشرفية، وقبل نهاية السهرة، عرف أدونيس أنني سأغادر إلى القاهرة بعد يومين أو ثلاثة. أعطاني نسخة من العدد الجديد لمجلة “مواقف”، ثم سألني، برقته المعهودة، أن أوصل النسخة إلى الشاعر محمد عفيفي مطر، وكان ذلك في عام 1973.
عرفت عفيفي من خلال قصائده، في مجلة “الآداب” خاصة، وكنت أنوي لقاءه في القاهرة، وقد ضاعف حديث أدونيس عنه من حماسي لتحقيق ذلك اللقاء المرتقب. وهكذا تعرفت في زيارتي تلك للقاهرة، على عدد من شعراء مصر وكتابها: محمد عفيفي مطر، فاروق شوشة، سامي خشبة، كمال ممدوح حمدي، ويحيى الطاهر عبدالله..
وفي بغداد كانت لقاءاتنا طويلة ومتعددة. كنا نعمل سوية في مجلة “الأقلام”، التي كانت ملتقى لمجموعة من الشعراء والمثقفين العرب ممن ضاقت بهم أوطانهم، أو ضاقوا بها، آنذاك كان معنا خيري منصور، غالب هلسا، نفيسة قنديل زوجة عفيفي، ومريد البرغوثي الذي لم يطل به المقام كثيرا في بغداد.
تكاد تكون شخصية محمد عفيفي مطر من جنس شعره تماما، قواما نحيلا ممهورا بأصالة مصرية حقيقية، وانتماء إلى الأرض وما تضجّ به من حكايات ضاربة في القدم، والبساطة العميقة، حتى يبدو وكأن الشاعر واحد من المصريين القدامى، يهبط من كتب التاريخ توا، وقد أنضجه الذكاء وأنحله عذاب الموهبة.
لم يختر عفيفي بغداد مكانا للعيش، مجرد العيش، كما أعتقد، بل مكانا لممارسة دوره شاعرا ومثقفا عربيا في لحظة بالغة الحرج والدلالة. وكان في قراره من الاضطرار قـدر ما فيه من الحرية، بعد أن كانت مصر تذهب إلى خيارات لم يكن موقف المثقفين المصريين منها موحّدا. وكانت بغداد تتأهب لخيارات لا تقلّ خطورة، ربما، من تلك التي كان يجري التعايش معها هناك على مضض. كان العراق في بداية صعوده السريع إلى فائض القوة، على أكثر من صعيد، غير أن المؤشرات، مع ذلك، كانت تتنامى كل يوم على أن ذلك المسار لن يكون آمنا حتى النهاية. وكانت الترتيبات، على الأرض، كافية لكي نتخيل ما كنا نخشاه، دون أن نبوح به: بلدا شديد القوة بملامح فردية صارمة.
كانت حياة محمد عفيفي مطر وشعره متطابقين، إلى درجة كبيرة. كلاهما ينبثقان من الأرض ويغوصان في طمْي أنهارها. وكان كلاهما يتوجّهان، بعمقٍ ولوعة، إلى سماء من المعاني الرفيعة، والحنين الدافئ المعذّب إلى المطلق والقصيّ والمترفّع عن مرذول القول.
كان دائم الحرص على تذييل قصائده بما يدل على ارتباطه بالمكان “رملة الأنجب”، أو ”كفر الشيخ”، حتى غدا هذان المكانان وكأنهما توقيعان من تواقيع محمد عفيفي مطر، أو اسمان من أسمائه الفنية. وهما، في الحقيقة، يشتملان على قدر عال من الدلالة والإيحاء. فمن جهة يجسدان غزارة المكان وملموسيته، ومن جهة أخرى، يمثلان تلك البطانة الروحية والنفسية والشعبية التي ميزت قصائده وشكّلت تموجها الداخلي المشوب بأوجاع الناس وبساطتهم البليغة.
ولم يكن الحاجز صلدا بين حياته الشخصية المتعينة ومادة شعره، فقد كان الحضور الواقعي كبيرا لعناصر ماثلة منحياته: كان فلاحا بأشد المعاني واقعية وبأكثرها رمزية أيضا.
وما يلفت النظر في قصيدته استنادها إلى كثافة فنية ولغوية شديدة، واستثمار عميق للموروث الحكائي والرمزي والصوفي، وقد ترك ذلك أثره واضحا على صلة قصيدته بالقارئ، فلم يكن تلقّيها أمرا ميسورا على الدوام .
وفوق ذلك كله، كانت قصيدة محمد عفيفي مطر تتكشف عن ثقافة واسعة ومخيلة رحبة من جهة، وتحرص على كرامة المعنى ورفعته من جهة أخرى. لم تغادر انتماءها إلى الأرض، ولم تنكسر أمام بطش السلطان أو لمعان خزائنه.
شاعر من العراق