محمد شياع السوداني الملاحق بشبح المالكي والمعزّز به

بغداد - ربما لم يخطر ببال رئيس الوزراء العراقي المكلّف محمد شياع السوداني حين شارك مع المجموعات الشيعية في الهجوم على مؤسسات الدولة العراقية والسيطرة عليها ونهبها آنذاك قبل أن تستعيدها السلطات عام 1991 أنه سوف يكون على رأس تلك المؤسسات ذات يوم.
معادلة ”المحاصصة“ التي قدم على جناحيها السوداني يبدو أنها ستنعكس على الحكومة التي ينوي تشكيلها، وأولى تسريبات الأسماء التي يتم تناقلها تتحدث عن وزير ”مسيحي“ بناء على مشاورات ”الإطار التنسيقي“ التي أفضت إلى ضرورة طمأنة الغرب، من خلال السوداني ذاته ومن خلال تركيبة الحكومة.
أما المكوّن السني فقد تم الكشف عن أن مشاكله سوف ”تحل بخصوص الوزارات“، بينما حسم ”الإطار التنسيقي“ والكرد أيضاً اختيار الوزارات التي يرغب الطرفان بأن يتولاها ممثلون عنهما.
إضافة إلى التشكيلة الوزارية، فقد زوّد السوداني رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي بما أسماه ”منهاج الوزارة“ لعرضه على النواب.
فوز الخاسرين
صحيح أن السوداني وصل إلى المنصب أخيراً، لكن البلاد عاشت قبل وصوله عاماً كاملاً من الانسداد السياسي لم تشهده العملية السياسية العراقية منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وإسقاط نظام الرئيس الراحل صدام حسين.
وللخروج من حالة الاستعصاء تلك، كان لا بدّ من التوافق والمحاصصة الطائفية، وتنحية الكفاءة جانباً في اختيار رجال المرحلة القادمة الذين ستكون على عاتقهم، من خلف السوداني، مهمة إنقاذ الأوضاع المعيشية للعراقيين مما هي عليه اليوم.
وفي نفس الوقت يقف خلف السوداني شبح رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وتياره الذي خسر الانتخابات ولكنه بقي يهيمن، ويقف فوز ”التيار الصدري“ بزعامة مقتدى الصدر، الذي لم تتم ترجمته إلى مرحلة يقوم بإدارتها.
مشروعان معلنان ارتطما ببعضهما البعض؛ مشروع إيراني باتت معالمه واضحة للجميع، ومشروع الصدر الذي زعم أنه ينوي تشكيل حكومة أغلبية بغض النظر عن العامل الطائفي فيها، على ألاّ تضم في جنباتها أياً من قوى ”الإطار التنسيقي“.
لم يتمكن التيار الصدري من فرض إرادته، رغم كل ما قام به من استعراضات احتجاج وانسحاب وتحريك للشارع واقتحام للبرلمان، وذهبت الحكومة في النهاية إلى ”الإطار التنسيقي” والسوداني.
أراد السوداني أن يفتتح حضوره على الساحة في هذه المرحلة بملف الفساد، وكانت أولى كلماته تتوعد باستعادة هيبة الدولة، ووضع الأمرين على رأس أولوياته.
محارب فساد مكبّل به
وفي الملفين سيواجه السوداني شبح المالكي مجدداً، فالفساد الذي شهده العراق خلال حكم المالكي والذي تمت حمايته من المساءلة، أكبر من أن تغطي عليه تصريحات صحافية لرجل من الماكينة ذاتها.
وبقي العديد من الملفات المرتبطة بالفساد والتي تعود إلى عهد المالكي طي الكتمان ومن دون إجابات حتى الآن، ومن بينها ملف التسليح الذي أخفت فيه لجنة العقود مصير المليارات من الدولارات بحجة شراء أسلحة من دون وجود أسلحة أصلاً وتبين أن العديد من تلك الأسلحة تم شراؤها بأسعار أكثر مما تستحق، وبعضها مستهلكة أو مستخدمة في الحرب العالمية الثانية.
وتُوجّه لعهد المالكي اتهامات بوقوع جرائم رشوة بالملايين من الدولارات بين مسؤولي وزارة الدفاع، ليأتي بعد ذلك ملف فرار وزراء ومسؤولين حكوميين متهمين بقضايا فساد كانوا على رأس عملهم خلال عهد المالكي، من بينهم فلاح السوداني وعبدالقادر العبيدي وكريم وحيد.
أما المستشفى العسكري الوهمي الذي أنفقت حكومة المالكي مليار دولار لإنشائه، فقد برهنت التحقيقات على أنه غير موجود في العراق، حتى أنه لم يتم وضع حجر الأساس له، وتم سؤال وزير الدفاع السابق خالد العبيدي عنه في جلسة من جلسات البرلمان، فأجاب قائلاً ”إن العقد لهذه المستشفى وقع في زمن المالكي والعمل فيه مازال متوقفاً“.
ملفات فتحها يعني فتح النار على المالكي ذاته، فهل يتمكن السوداني على سبيل المثال من مساءلة المالكي عن الطائرات التي قال المالكي إنه اشتراها من روسيا، ليتبين أنها هي نفسها الطائرات العراقية التي لم تعطها إيران الإذن بالهبوط في الحرب الأميركية ضد العراق واضطرت للهبوط في روسيا آنذاك، فأعادت حكومة المالكي تلك الطائرات باعتبار أنه تم شراؤها.
وهل يمكن فتح ملف المصارف الأهلية التي كانت تسحب الأموال من البنك المركزي العراقي بوصولات مزيفة، وكانت 16 مصرفاً امتصت الملايين من الدولارات من البنك المركزي العراقي ناقلة إياها إلى إيران لمساعدتها على تجاوز العقوبات، إضافة إلى التحايل على العقوبات الدولية واستخدام الأجواء العراقية والمطارات العراقية لإيصال أسلحة إلى النظام السوري عبر طائرات روسية وإيرانية.
العراقيون ينظرون بعدم ارتياح إلى المرحلة القادمة من عهد السوداني، ففي ذاكرتهم أن انتفاضة الشارع في "تشرين" قتل "الإطار التنسيقي" فيها 750 متظاهرا، وسقط 25 ألفا من المصابين من بينهم 5 آلاف عراقي خرجوا بإعاقات دائمة
وأخيراً وليس آخراً ملف الجنود الوهميين في وزارة الدفاع العراقية الذي افتضح بعد سقوط الموصل بيد تنظيم داعش الإرهابي، وكانوا جنوداً على الورق يتقاضون المرتبات العالية في الموصل وصلاح الدين، علاوة على قصة سقوط الموصل نفسها، وانسحاب القيادات العسكرية المرتبطة مباشرة بالمالكي وتسليم المدينة لعناصر داعش.
أما ”هيبة الدولة“ فمن الصعب إقناع العراقيين في ظل الهيمنة الإيرانية بأنه يمكن استردادها أو حتى مجرد مناقشتها، بعد أن باتت القرارات السيادية العراقية تُصنع في طهران أولاً ثم تُعلن في بغداد.
وينظر العراقيون بعدم ارتياح إلى المرحلة القادمة، ففي ذاكرتهم ذلك كله، إضافة إلى أن انتفاضة الشارع في ”تشرين“ عانت من حكومة يقودها “الإطار التنسيقي” معاناة جمة، فقد تم التعامل مع الانتفاضة بعنف مفرط، وتم قتل 750 متظاهرا، وسقط 25 ألفا من المصابين من بينهم 5 آلاف عراقي خرجوا بإعاقات دائمة، والشارع استقبل حكومة السوداني من اللحظة الأولى بمظاهرات رفعت صورته وعليها علامات الرفض.
فكيف سيتمكن الرجل من تجاوز هذا كلّه وهو الذي يدين للمالكي بالفضل في الإتيان به رئيساً للحكومة، فقد قام بنفسه بفرض رجله على كل قيادات “الإطار”، فالسوداني عضو ”سابق” في حزب المالكي “حزب الدعوة”، وسبق له وأن مثّل الحزب في 5 وزارات خلال عهد المالكي.
ولد السوداني في بغداد في عام 1970 وهو يقول إن عائلته عانت من ملاحقة النظام العراقي السابق لها بسبب ولائها لـ”حزب الدعوة“. ومع ذلك فقد درس السوداني في جامعة بغداد وحصل على البكالوريوس من كلية الزراعة عام 1992 والماجستير في إدارة المشاريع بعدها بعدة سنوات، قبل أن ينخرط هو الآخر في ”حزب الدعوة“.
وبعد العام 2003 تم تعيينه محافظاً لميسان، ووزيراً لحقوق الإنسان، وكان عضواً في مجلس النواب عن ”ائتلاف دولة القانون“ لثلاث فترات متتالية. ثم تولى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في عهد حيدر العبادي.
وبعد مسيرة طويلة مع المالكي استقال السوداني من ”حزب الدعوة“ وأسس ”تيار الفراتين“ الذي حصل على ثلاثة مقاعد من أصل 329 في مجلس النواب الحالي.
حملة وشيكة
التيار الصدري، من جانبه، ينظر إلى السوداني بعين الريبة، ليس الآن فقط، بل منذ العام 2019 حين تم طرح اسمه من بين الأسماء المرشحة لتولي رئاسة الحكومة بعد استقالة عبدالمهدي، وحينها أسقط الصدريون اسمه.وتبعاً لهذه الذاكرة بين التيار الصدري والسوداني فإن الأخير لن يُترك مرتاحاً خلال الفترة القادمة، ومن خلال هذه التناقضات كلها تبرز المهمة التي جاء من أجلها السوداني أكثر من تلك المعلنة عبر شعارات مكافحة الفساد واستعادة هيبة الدولة.
سبق لإيران وأن قادت عبر المالكي حملة لترتيب البيت الشيعي في العراق والقضاء على كل من يشق عصا الطاعة ولا يستجيب لمشروع الهيمنة الذي تقوده، حين شنّ المالكي حملة عسكرية قبل 14 عاماً لتفكيك ”جيش المهدي“ الذي كان يتبع الصدر.
ولكن السنوات الطويلة الماضية لم تتمكن من رأب الصدع بين المالكي والصدر الذي عاد مجدداً ليغرّد خارج السرب عبر تلويحه بإبعاد ”الإطار التنسيقي“، فجاءه الرد بجلب السوداني ليواصل حملة المالكي القديمة ذاتها.
وفي الوقت الذي فشل فيه السعوديون في دعم مصطفى الكاظمي، وتمكن الأتراك من رتق خلافات زعيمي المكون السني الحلبوسي وخميس خنجر عبر تحالف ”السيادة“، لم يبق أمام الإيرانيين سوى التيار الصدري مجدداً.
السوداني مقيّد بإرث المالكي في حملته المعلنة على الفساد، فالفساد الذي شهده العراق خلال حكم الأخير أكبر من أن تغطي عليه تصريحات صحافية لرجل من الماكينة السياسية ذاتها
سيكون في مقدمة برامج السوداني العمل على تحييد التيار الصدري هذه المرة، سياسياً وفي الشارع، وإحلال كوادر تتبع لـ ”الإطار التنسيقي“ محل كل معارض لتوجهات إيران في أجهزة الدولة.
وحتى لو حافظ التيار الصدري على صمته، فإن ديناميكية عمل السوداني ستستفزه وتدفعه إلى رد فعل لن يكون حسمه سلمياً، بينما يتنافس الطرفان على محاولة التقرّب من قوى الانتفاضة العراقية.
وإذا كانت طهران قد توعّدت كردستان العراق بإجراءات عقابية جراء احتضانها لأحزاب كردية إيرانية معارضة، وقصفت شمال العراق مراراً، وحاولت رسم حدود الطموح الكردي المتعلق بالغاز من قبل، فإن الوقت حان مع السوداني لتصعيد التوتر القائم أساساً بين بغداد وأربيل، وما كلام ”الإطار التنسيقي“ ووعوده للكرد بتعديل قانون النفط والغاز ومنحهم حقائب وزارية وإعادة ترتيب كركوك، إلا كلام معسول سرعان ما ستواجهه صعوبة التنفيذ على المستوى العملي لأنه سوف يصطدم بالنفوذين الإيراني والتركي وتقاطعاتهما وافتراقاتهما، ناهيك عن أن مثل هذه الوعود لا يمكن أن تنال رضا الشارع العراقي وهو ما يتعارض مع ما يسعى ”الإطار التنسيقي“ لنيله لمساعدته على خصمه التيار الصدري.
وفي الوقت الذي يرسل فيه السوداني تطميناته إلى الغرب، تحاول إيران الاستفادة من العراق كله وحكومته كورقة على طاولة التفاوض من أجل ”اتفاق نووي“ جديد صعب الولادة. فالولايات المتحدة التقطت الكرة بدورها، وأخذت السفيرة الأميركية في بغداد آلينا رومانوسكي تعلن رغبة بلادها بـ”بناء علاقات جديدة مع العراق“، مرحبة بتشكيل محمد شياع السوداني للحكومة، كما أنها زارته في مكتبه.
وتحاول الولايات المتحدة عدم خسارة ما تبقى لها في العراق، وهي تدرك أن السوداني ليس ذلك الحصان القوي الذي يمكن الرهان عليه، لكنها أيضاً تعرف أنه رجل المالكي، وهي ذات تجربة طويلة مع الأخير، ففي مفاصل معينة كان يمكن الاعتماد عليه على الرغم من علاقته الوطيدة مع الإيرانيين.