محسن محيي الدين ممثل مصري يسترد بريقه بعد العودة من الاعتزال

نجومية في الصغر والكبر وغياب في مرحلة الوسط.
السبت 2022/10/01
فنان من "الجيل المسحور"

القاهرة - قليل من نجوم الفن في مصر يواصلون تألقهم من الصغر وحتى الكبر. وقليل أيضا من يعتزل ويترك الساحة نحو أكثر من عقدين ثم يعود ويسترد تألقه الفني. من هؤلاء الفنان المصري محسن محيي الدين الذي لمع في برامج الأطفال وقام وهو شاب ببطولة أربعة أفلام من إخراج يوسف شاهين ثم هجر الفن بلا سابق إنذار، وزادت التكهنات حول اعتزاله الذي تزامن مع اعتزال زوجته الفنانة نسرين.

عاد محيي الدين ليشارك في عدد من الأعمال الدرامية السنوات الماضية التي أعادت تسليط الأضواء عليه، وظل السؤال المحوري لماذا غاب، وما هي دوافعه في العودة، وكيف استطاع أن يكون رقما فنيا مهما في كثير من الأعمال التي شارك فيها مؤخرا، وحولته إلى ما يشبه “ثيمة” يتفاءل بوجودها مخرجون، من بينها مسلسل “طير بنا يا قلبي” الذي يعرض حاليا على قناة “أون” وتشاركه البطولة الفنانة ريم مصطفى وهالة فاخر.

لا يزال اعتزاله يمثل لغزا لأنه جاء وهو في قمة نجوميته، على الرغم من أنه حكى قصته أكثر من مرة، مؤكدا أنه لا علاقة بما تردد حول حديثه عن أن الفن “حرام” وهو الحديث الذي طارده فترة طويلة وظلت إجابته على لسانه معلقة إلى حين عودته للتمثيل مرة أخرى، وأن القصة تتعلق بمراجعة شخصية من جانبه وزوجته الفنانة المعتزلة نسرين التي لم تظهر في أي برامج منذ اعتزالها قبل حوالي ثلاثة عقود.

غياب يشبه الحضور

القيمة هي العملة الباقية، كما يؤمن محيي الدين، لذلك لم يتنصل من أعماله السابقة في ما يمكن وصفه بمرحلة “التيه” الفكري

غاب محيي الدين عن التمثيل خلال الفترة من 1991 وحتى 2013، وطوال هذه الفترة لم يظهر في أعمال فنية أو برامج حوارية، وعاد ليشارك في بطولة عدد من الأعمال الدرامية، منها “فرق توقيت” و”قمر هادي”، و”ملف سري” الذي عرض في موسم رمضان الماضي.

في كل هذه الأعمال وغيرها التي ظهر فيها بعد أن تجاوز الخمسين من عمره، احتفظ بصورة الولد الشقي الذي يرقص الديسكو ويقفز من مكان لآخر بسهولة ويجيد ملاطفة النساء.

انطبعت هذه الصورة في أذهان المشاهدين ومن عاصروه في شبابه وكانت ظاهرة في أعماله الأربعة التي أخرجها له شاهين، وهي “إسكندرية.. ليه؟” و”حدوتة مصرية” و”وداعا بونابرت” و”اليوم السادس”، ويعد شاهين مكتشفه الأول الذي منحه فرصة البطولة في وقت مبكر، وربما كان من أسباب اعتزاله بعدها.

تحدث عن تجربته مع شاهين بكل تقدير من دون أن يوجه إليه لوما أو يحمله مباشرة مسؤولية ابتعاده عن الفن، لافتا إلى خلافه معه أحيانا، وعلى العكس يعتبر أن الأعمال التي خاضها معه أسهمت في تكوينه الثقافي ونضجه الشخصي، ومشاركته فيها كانت من بين العوامل التي صنعت شخصيته وفتحت له آفاقا ثقافية متعددة.

ترافق الاعتزال مع ركود فني في مصر تصاعدت حدته مع اندلاع حرب الخليج الثانية، حيث أدى غزو العراق للكويت إلى توقف أحد أهم مصادر الدخل التي اعتمدت عليها السينما من خلال التوزيع الخارجي في أسواق دول الخليج.

توقف محيي الدين عند هذه النقطة وحملها جانبا من عزوفه أو اعتزاله، لكن بقي الجانب الديني في الاعتزال الأكثر شيوعا عند الحديث عن سبب غيابه الفني.

الجيل المسحور

الصورة الذهنية الخاصة بمحيي الدين تغيرت عبر مراحل عمره، وانتقل من المراهق الشقي إلى الشيخ الحكيم، وفي الحالتين لم يتخل عن خفة ظله ومرحه الدائم

ينطبق على جيل محيي الدين وصف الدبلوماسي المصري ورئيس مكتبة الإسكندرية السابق مصطفى الفقي عندما قال إنه ينتمي إلى “الجيل المسحور” نسبة إلى الطابق الأول في البنايات المصرية الذي لا يذكر ضمن طوابق البناية ولا يشار إليه لأن المصعد لا يتوقف عند، في إشارة إلى أنه جيل غير مرئي ومحجوب ومهضوم حقه في الترقي الوظيفي والوصول إلى أعلى درجات السلم.

بصرف النظر عن العبارة التي نحتها الفقي والهدف منها، مع أنه لم يحرم من الوظائف المرموقة، إلا أنه من الممكن استخدامها لوصف جيل محيي الدين الفني، فمن أبناء هذا الجيل في التمثيل الفنان الراحل ممدوح عبدالعليم، وهشام سليم الذي وافته المنية منذ أيام، والفنانة آثار الحكيم، يضاف إليهم في الطرب محمد الحلو ومحمد ثروت وإيمان البحر درويش، وكل هؤلاء كانت تنتظرهم نجومية واسعة، غير أنه لأسباب متباينة وغير مفهومة غالبا تواروا عن الأنظار كثيرا.

يعد محيي الدين الوحيد الذي كسر قاعدة الجيل أو الطابق المسحور، فعودته من الاعتزال وضعته في الواجهة مرة أخرى على خلاف ما كان يتوقع له البعض من النقاد من رفض وعدم ترحيب وعدم قدرة على انسجام، خاصة أن الوازع الديني كان من العوامل الظاهرة التي قادت إلى اعتزاله مبكرا، حيث اعتبر أن الوفاة المفاجئة للفنانة هالة فؤاد وكانت زوجة للفنان الراحل أحمد زكي وصديقة لمحيي الدين وزوجته نسرين، هزته من الداخل وفرضت عليه مراجعة حياته وطقوسه مع الفن.

موقف من المد الديني

يوسف شاهين يعد مكتشف محيي الدين الأول، قدمه في أعماله الأربعة البارزة: "إسكندرية.. ليه؟" و"حدوتة مصرية" و"وداعا بونابرت" و"اليوم السادس"
يوسف شاهين يعد مكتشف محيي الدين الأول، قدمه في أعماله الأربعة البارزة: "إسكندرية.. ليه؟" و"حدوتة مصرية" و"وداعا بونابرت" و"اليوم السادس"

أنكر تماما أن يكون الاعتزال أسهمت فيه أي جماعة دينية، لكنه لم ينكر أن هناك جماعات حاولت توظيف اعتزاله وزوجته واستقطابهما إلى جوارها، من بينها جماعة الإخوان التي كسبت أرضا في الشارع المصري بقدرتها على استمالة بعض مشاهير الفن والرياضة في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، وحرص على أن يكون اعتزاله منزها عن أي علاقة مع جماعة دينية لها أهداف سياسية.

دارت شكوك حول هذا التفسير، لأن اعتزاله وزوجته تزامن مع ما يمكن وصفة بـ”هوجة” اعتزال لبعض الفنانين والفنانات، بعضهم عاد مثل الراحلة سهير البابلي وصابرين ومنى عبدالغني، والبعض واصل الاعتزال مثل الأخوين محمد ووجدي العربي المحسوبين على جماعة الإخوان حتى الآن.

جيل محيي الدين الفني، كالراحل ممدوح عبدالعليم، وهشام سليم الذي وافته المنية منذ أيام، وآثار الحكيم، ومحمد الحلو ومحمد ثروت وإيمان البحر درويش، كانت تنتظره نجومية واسعة، غير أن هؤلاء لأسباب غير مفهومة تواروا عن الأنظار

حرص محيي الدين على تأكيد أن اعتزاله لم يصاحبه تحريم للفن، كما حدث مع البعض، فقط اشترط توافر القيمة الاجتماعية في أي عمل يشارك فيه أو دور يقبل تمثيله، وهو ما يميز جميع الأعمال التي شارك فيها، فقد ظهر في مسلسل “ملف سري” في دور رجل أعمال فاسد وعربيد وتاجر مخدرات، غير أن العبرة التي ينطوي عليها العمل مهمة وقيّمة ولها هدف اجتماعي نبيل في المحصلة النهائية.

وضع توصيفه العام حدا لما شاع فترة طويلة بشأن الفن والدين، ويبدو قريبا من توصيف الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي عندما سأله أحد الأشخاص عن التلفزيون وهل هو حرام أو حلال، فوجد في تشبيهه بالسكين توصيفا بليغا، حيث قال إذا استعملت في ذبح خروف فهي حلال، وإذا استخدمت في ذبح إنسان فهي حرام.

لم يقل محيي الدين كلاما دينيا ومباشرا عن الفن، لكن المعاني التي نطق بها تشير إلى هذا المضمون، ما جعل الحس الديني الكامن داخله يظهر عندما يُسأل في شأن له علاقة بعمله، فالمحدد الرئيسي فيه هو فكرة القيمة من دون أن يستغرق في تفاصيل خاصة بشكل الأزياء التي ترتديها الفنانات.

تغيير الصورة الذهنية

محيي الدين لم ينكر أن جماعة الإخوان حاولت توظيف اعتزاله
محيي الدين لم ينكر أن جماعة الإخوان حاولت توظيف اعتزاله

غيّرت فترة الاعتزال في الصورة الذهنية له، وانتقل من المراهق الشقي إلى الشيخ الحكيم، وفي الحالتين لم يتخل عن خفة ظله ومرحه الدائم ورشاقته ومروحته الثقافية الواسعة التي تضم الفن والدين جنبا إلى جنب.

وهي وصفة مرنة يمكن أن توفر الكثير من العناء الذي يحدث لبعض الفنانين عندما يواجهون بأسئلة من نوعية الفن حرام أم حلال التي لا تزال تتردد على البعض حتى الآن ومنهم من يجدون مأزقا في الإجابة بسبب الفقر الطاغي في خطابهم الثقافي.

أنهى محيي الدين الجدل حول هذه المسألة بوضوح بالنسبة إليه شخصيا، غير أنه لم ينه الجدل العام، فلا يزال السؤال الإشكالي يتردد على مسامع آخرين ولأنهم لم يخوضوا تجربة حافلة مثله تأتي الردود دوما مفتعلة ولا تعبر عن واقع حقيقي.

اعتزاله لا يزال يمثل لغزا لأنه جاء وهو في قمة نجوميته (محيي الدين مع داليدا)

وفّر تعامله المرن مع زملائه وزميلاته في الوسط الفني الكثير من الجهد عليه في دعم فكرته عن القيمة الاجتماعية كعنصر حاكم في اختياراته الفنية، ولم يعد من يشاهدونه في أعمال درامية في دور الطيب وأخرى في دور الشرير يتذكرون أين كان في مرحلة الشباب، أو يرددون سؤال الاعتزال المحاط بعلامات استفهام، لأن أدواره المتنوعة التي لم تأخذ نمطا واحدا بعد العودة، وقد تجاوز الستين بثلاثة أعوام، لا تترك مجالا لوضع علامات تعجب أو استفهام.

يظل محيي الدين نموذجاً فريدا وجذابا لأنه حسم موقفه من الفن من خلال قاعدة القيمة بمعناها العميق، وهي الصفة التي يريد كل فنان وفنانة التمسك بها حتى لو كانت الشخصية في الواقع بعيدة عن القيمة، ولذلك تعرض عليه أدوارا متعددة ويجيد التعامل معها بالمعيار الذي وضعه ويحرص على التمسك به.

وهو يظل بكل تنقلاته وتحولاته وتناقضاته، يحوي داخله فنانا حقيقيا، لأنه لم يلجأ إلى افتعال بطولات من ورق أو ادعاء أشياء بعيدة عنه أو يلجأ إلى التزييف، فقد التزم الصدق وتمسك به ويعلم أن هناك حسابات فنية يمكن أن تجد في كلامه ما لا يروق لأصحابها، مع ذلك يبدو مستعدا لتقبل نتيجة اجتهاداته القاسية أحيانا على من حوله.

أكد الرجل أن القيمة هي العملة الباقية وأن التنصل من أعماله السابقة فيما يمكن وصفه بمرحلة “التيه” الفكري يسيء إليه قبل أن يسيء لمن عملوا معه، ما منح التراكمات التي حصدها على مدار مسيرته الحافلة معاني صنعت منه نجما مسؤولا حتى الآن.

12