محامي المستقبل، برنامج رقمي تثبته على هاتفك الذكي

التجارب التي بدأتها الصين بافتتاح أول محكمة مختصة بمعالجة النزاعات بغياب المدعي العام والمحامي مكتفية بروبوت يسجل الجلسة من البداية إلى النهاية وبحضور القاضي فقط، ذهبت بها شركة “دو نت باي” خطوات أبعد، مستعينة بتقنية قراءة الانفعالات العاطفية البشرية التي طورتها شركة "إيمو بوت" الفرنسية وقدمتها في معرض لاس فيغاس 2023 لإلكترونيات المستهلك.
لاس فيغاس - المغامرة الأميركية أتت متأخرة خمس سنوات عن المغامرة الصينية، ولكن مع تسجيل خطوات أبعد. في أغسطس 2017 افتُتحت أول محكمة صينية متخصصة في معالجة القضايا والنزاعات المتعلقة بالإنترنت في مجمع التجارة الإلكترونية بمقاطعة تشيانغ لمعالجة عدد متزايد من النزاعات الناشئة عن الإنترنت.
وتعد هذه المحكمة الأولى التي عملت بالذكاء الاصطناعي، فالقاضي هو الشخص الوحيد الذي حضر في قاعات المرافعات، ونسّق مع المدعي العام والمحامي والمدعى عليه عبر أجهزة الكمبيوتر.
وقال القاضي شياو فانغ شيون، حينها، إن 70 في المئة من القضايا لا تتطلب الحضور الشخصي إلى المحكمة. ومع تطور التكنولوجيا وتوجه الحياة نحو الاعتماد أكثر على الذكاء الاصطناعي، فقد استُبدل الكاتب العام بالإنسان الآلي الذي تفوق على العنصر البشري بسرعته في كتابة القضايا.
وتستجيب المحكمة الذكية لاقتراح حكومي بتطوير آليات عمل القضاء والاعتماد على الذكاء الاصطناعي. التجربة الصينية لم تلغ دور المحامي نهائيا، وإن كانت سباقة في توظيف الذكاء الاصطناعي.
اليوم، مع شركة "دو نت باي"، يصبح الذكاء الاصطناعي جاهزا للدفاع عنك داخل قاعة المحكمة، حيث تخطط الشركة لإطلاق أول محام آلي في العالم، للنظر في قضيتين بشأن مخالفات السرعة في المحكمة خلال شهر فبراير المقبل.
إلى أي مدى استفاد الذكاء الاصطناعي الذي تدرب عليه الروبوت المحامي الأميركي من تجربة الصين مع إدخال ذكاء الآلات إلى قاعات المحاكم؟ وهل “يتلعثم” الروبوت المحامي في مرافعته الأولى أمام المحاكم الأميركية فيكرر الورطة التي وقعت فيها الروبوت "صوفيا" حينما أعلنت في ظهورها الأول أنها قد تعمل على إفناء البشر؟
أول محام آلي
طالما ارتبط الحديث عن الذكاء الاصطناعي والروبوتات بأذهاننا بمشاهد الخيال العلمي التي أغرقتنا بها أستوديوهات هوليوود، لكن يجب أن نتذكر هنا أنّ الروبوت المحامي لن يكون على شاكلة الروبوت “صوفيا” أو غيرها من الروبوتات التي تتخذ شكلا بشريا. ولا يذهب الخيال بأحد إلى تصور أن الأمر يتعلق بوقوف آلة حديدية أمام منصة المرافعة. المحامي الروبوت مجرد برنامج رقمي ذكي يتم تثبيته على الهاتف الذكي.
ووفقا لما ذكره موقع "يو.إس تودي"، ستتم الاستعانة بالمحامي الآلي من خلال تعليمات الذكاء الاصطناعي للمتهمين بكيفية الرد على القضاة المعينين، وبحسب مبتكري التقنية، يشبه القانون الكود واللغة مجتمعين، لذا فهي حالة استخدام مثالية للذكاء الاصطناعي.
وتتمثل خطة الشركة في جعل المدعى عليهم يرتدون سماعة أذن مزودة باتصال "بلوتوث"، ومن المحتمل أن يكون AirPod يبث الذكاء الاصطناعي من خلاله تعليمات وتوجيهات في آذان المتهمين.
وبينما يرافع المدعى عليه في واحدة من القضايا شخصيا، يرافع آخر من خلال منصة “زووم”. وستكون هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام الذكاء الاصطناعي في المحكمة ليحل محل محامي الدفاع، ويحتفظ نظام “دو نت باي” بالتواريخ والمواقع الدقيقة لجلسات الاستماع.
◙ 70 في المئة من القضايا لا تتطلب الحضور الشخصي إلى المحكمة مع اعتماد الذكاء الاصطناعي
وتتمحور المحاكمة الأولى حول دفع رسوم مخالفة سير وتجاوز الوقت المحدد لركن السيارة وفق ما حدده عداد إحدى ماكينات الـ”بارك ميتر”. ومن الطريف أن فكرة تأسيس شركة “دونت باي”، جاءت إلى مؤسسها جوشوا براودر إبان دراسته في جامعة بعد أن تكرر كثيرا حصوله على مخالفات ركن سيارة، بل تجمع لديه عدد كبير منها.
وفي 2015 فكر براودر في صنع برنامج مؤتمت يستطيع أن يراجع القوانين المتعلقة بتلك المخالفات، ويقدم نصائح عن طريق تفادي دفعها. وبالتدريج، تطور الذكاء الاصطناعي لبرنامج من نوع “روبوتات المحادثة” (شات بوت Chat Bot)، أي أنه برنامج رقمي مؤتمت يستطيع التفاعل مع أسئلة الجمهور ويقدم إجابات عنها، استنادا إلى قاعدة بيانات ومعلومات تتوسع باستمرار.
وبالنظر إلى طبيعة التقاضي في المحاكم الأميركية، المتأثرة بنظيرتها الإنجليزية التي تعمل وفق ما يسمى “السوابق القضائية”، فإن وجود أداة ذكية تستطيع أن تراجع خلال ثوان قليلة كميات كبيرة من السوابق والأحكام القضائية المرتبطة بها، سيشكل عنصرا فائق الأهمية والتأثير في مسار المحاكمة والأحكام التي تصل إليه. وبديهي القول إن الذكاء البشري لا يستطيع إنجاز أمر مماثل.
ومنذ 2015، اشتغل براودر على تطوير البرنامج وأرسى شركة “دو نت باي” على نموذجه في الذكاء الاصطناعي. وفي الموقع الإلكتروني للشركة، يمكن ملاحظة أن نشاطها بات يضم مجموعة كبيرة من الـ”بوتات” متخصصة في أمور قانونية متنوعة، خصوصا تلك التي تشمل نشاطات الحياة اليومية كالزواج والبريد والحيوانات المنزلية ووثائق الولادة وفواتير الأطباء والمستشفيات وغيرها.
بينما تجتهد “دو نت باي” في وضع اللمسات الأخيرة على برنامجها الذكي، اختتم في لاس فيغاس معرض إلكترونيات المستهلك 2023، ولم يمر الحدث دون أن يترك بصمته، وقد يجبر “دو نت باي” على تعديل خططها المتعلقة بالروبوت المحامي لتوظف جهاز تحليل المشاعر البشرية من قبل الذكاء الاصطناعي الذي قدمته شركة “إيموبوت” Emobot الفرنسية في المعرض الذي ختم نشاطه الأحد الماضي.
قياس المشاعر
والجهاز عبارة عن "مقياس حرارة عاطفي" يشبه تمثالا صغيرا “يراقب المشاعر العاطفية باستمرار" بفضل الكاميرا والميكروفونات الخاصة به. وتتمتّع خوارزميات الجهاز بقدرة على "تحليل تعبيرات الوجه الدقيقة" التي تعكس المشاعر البشرية، فهي بمثابة مرآة “لحالنا النفسية والذهنية” وفق مدير التكنولوجيا في الشركة الفرنسية التي تولت ابتكار الجهاز أنتوني بيرزو.
ويقول ستيف كونيغ، وهو نائب المسؤول عن الأبحاث في شركة "كنسيومر تكنولوجي أسوسييشن" التي تتولى تنظيم معرض لاس فيغاس للإلكترونيات "لا نستطيع كبشر التعامل مع كل الأفكار التي ننتجها، فنحن بحاجة إلى مساعدة في هذا الشأن".
بالمثل طرح إميل خيمينيز مؤسس "مايندبانك أرتيفيشل إنتلجنس" تطبيقا يتيح تسجيل إجاباته على الأسئلة الشخصية، مثال "ماذا يعني الحب لك؟" من أجل "حفظ الأفكار الخاصة بكل فرد على الحوسبة السحابية بشكل دائم".
◙ الجهاز عبارة عن "مقياس حرارة عاطفي" يشبه تمثالا صغيرا “يراقب المشاعر العاطفية باستمرار" بفضل الكاميرا الخاصة به
واستقطبت الخدمة مستخدميها من خلال هدفها الرامي إلى التوصّل لفهم أفضل للذات. ويضم التطبيق برنامجا ذهنيا لغويا لتحليل أحاديث المستخدمين بهدف توضيح مشاعرهم. وفي ظل محاكمات تجري على الطريقة الأميركية، ستكون لتقنيات قياس مدى تأثر هيئة المحلفين بالأدلة والأسانيد والأقوال، أهمية كبيرة.
في المقابل، قد يفتح ذلك بابا واسعا أمام التلاعب بالمحاكم عبر استخدام أدوات تقيس انفعالاتها وردود فعلها، هل يزيد ترسيخ العدالة؟ هل يخدم ترسيخ القانون في بلاد تعتبر المواطن كائنا دستوريا وقانونيا قبل كل شيء؟ الأرجح أن قائمة الأسئلة طويلة.
ثمة جملة يتكرر ظهورها في عدد من المواقع الإعلامية مثل "نيويورك بوست" و"ياهو نيوز" و"ديلي ميل" و”بي.بي.سي”، تشير إلى أن الذكاء الاصطناعي رغم الدور الكبير المرشح للعبه في المستقبل القريب، لن يلغي مهنة المحاماة، لكنه سينقل سوق المهنة القانونية التي تبلغ قيمتها 200 مليار دولار، من أيدي المحامين ليضعها في أيدي أصحاب القضايا الذين سيصبحون بفضل الذكاء الاصطناعي محامين عن أنفسهم. إن كنت محاميا، لديك الآن أكثر من سبب لتشعر بالقلق.