محافظات الصعيد بمصر.. ساحة لتجنيد مجموعات جهادية جديدة

المعركة على الجبهة الإلكترونية تحسم الحرب على الإرهاب، والحكومة مطالبة بطرح بديل معتدل وسط نسيج اجتماعي متشنج.
الأربعاء 2018/10/31
إسلاميو مصر تعج بهم أقفاص الاتهام

الفكر الجهادي في محافظات الصعيد المصري يجد له جيوبا وحواضن منذ ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، ولم تحسم السلطات المصرية المعركة لصالحها بشكل كامل رغم نجاح عدة عمليات، وذلك نظرا لخصوصية البيئة الاجتماعية في تلك المحافظات التي يتغلغل فيها الفكر المتشدد لأسباب ليست بالضرورة اقتصادية، وإنما عقائدية أيضا تتعلق بالنسيج الطائفي. ويبقى التحدي الأكبر بالنسبة للحكومة المصرية هو الجبهة الإلكترونية والتركيز على الميدان الافتراضي الذي يعد الوسيلة الأبرز للاستقطاب والتجنيد لدى الجماعات الإرهابية.

القاهرة - أظهرت العملية الشاملة التي تخوضها الأجهزة المصرية ضد التنظيمات المسلحة منذ فبراير الماضي نجاحا كبيرا في سيناء، لكنها كشفت أيضا عن مدى مقدرة التيار الجهادي على تعويض خسائره البشرية في محافظات الصعيد (جنوب مصر).

في منتصف أكتوبر الحالي تم القضاء على خلية من تسعة عناصر بالطريق الواصل بين محافظتي أسيوط وسوهاج (جنوب مصر)، وأعقب ذلك بعشرة أيام (25 أكتوبر) الإعلان عن القضاء على خلية جديدة تضم 11 فردا جميعهم شباب في العشرينات من العمر في طريق الفرافرة بالصحراء الغربية في المنطقة الموازية لمحافظة أسيوط.

تستدعي هذه التطورات معاودة النظر في إشكاليات محافظات جنوب مصر، فمن الواضح أن البيئة في تلك المناطق لا تزال لديها قابلية لإنتاج الفكر المتطرف والعناصر التي يسهل تجنيدها داخل صفوف التنظيمات السرية المسلحة، الأمر الذي يطرح أسئلة بشأن الأسباب التي حالت دون السيطرة على الظاهرة بشكل كامل بعد مبادرة وقف العنف للجماعة الإسلامية المصرية التي نشطت في هذه الساحة خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وبشأن الأسباب التي لا تزال تدفع الشباب إلى العزلة ومحاربة المجتمع من كهوف الجبال.

أدت الخصوصية التي تتسم بها محافظات الصعيد إلى وضع الأسباب والدوافع الاجتماعية والاقتصادية في مرتبة أقل بالمقارنة بالدوافع الأيديولوجية التي تعبر عن نفسها داخل نطاق ليس مؤدلجا ولا يعبر عن الغالبية، لكنه يحتفي بحالة التشدد ويتسامح معها نتيجة طبيعة ديمغرافية تغلب عليها الاحتقانات بين المسلمين والأقباط، ويجري إسناد نشاط تلك المجموعات المسلحة عبر حالة تحظى بحضور في مجتمعات الصعيد، تنحاز للتعامل مع الحساسيات الطائفية بقناعات دينية متشددة.

وجه الغرابة في هذه الازدواجية، أن الغالبية داخل نطاق هذه الحالة تتحفظ على ممارسات تنظيمي داعش والقاعدة وغيرهما، لكنها تبدي استياءها إذا تمت مهاجمة الآراء السلفية المنتجة لهذا العنف.

مناهج الرفض

لعل مرورا سريعا على عينة من تعليقات المتابعين من محافظات جنوب مصر على صفحات التواصل الاجتماعي يعطي مؤشرا على الاتجاهات الحقيقية لسيطرة هذه النظرة، بذريعة الدفاع عن العقيدة ونفي تهمة التطرف عن الشريعة وأحكامها.

يجعل رفض النقد الإيجابي للأفكار المتشددة الترويج لها طبيعيا ومعتادا بين الأسر والشباب، فالآخر المختلف في العقيدة يظل كافرا مرفوضا دينيا واجتماعيا، وفي ضوء ذلك يكبر الشاب على تلك الأفكار والهواجس ولا يجد ترجمة لمناهج الرفض والتكفير سوى لدى من يدعونه لحمل السلاح وبدء الحرب على المجتمع من مخابئ الجبال، بما يضفيه هذا الخيال المختلط بالواقع من أجواء طبيعة الإسلام الأولى وحروب المسلمين الأوائل التي خاضوها بين الجبال وفي الصحراء.

يسهم التيار السلفي التقليدي في ترسيخ تلك المفاهيم المغلوطة عبر فتاوى قادته ومشايخه المتعلقة باعتبار أن المسيحيين كفار وأعيادهم الدينية هي مناسبات كفرية وشركية، وما ينبني عليها من دعوة عموم المسلمين إلى اعتزال المسيحيين-الأقباط وعدم مشاركتهم حتى في الواجبات الاجتماعية كالعزاء وغيره.

المجموعات الجهادية الجديدة فرضت عبر أسلوب حواري مختلف عن الأطر التقليدية للاستقطاب خطابا سلطويا بطرق ناعمة

اللافت أن براغماتية التيار السلفي التقليدية “السلفية العلمية” خدمت الخلايا المسلحة وتيار السلفية الجهادية عندما لم يبذل السلفيون جهدا في تفسير تحولاتهم الظاهرة التي مارسوها لأغراض انتخابية وحزبية، في حين ظل ما يشغلهم هو أن تسجل الكاميرات حضورهم في عزاء داخل كنيسة بإحدى محافظات الصعيد لدواعي التوظيف السياسي وإثبات تطور الأداء الحزبي.

وجد قادة ومنظرو السلفية الجهادية في هذه التصرفات وغيرها مبررا لصرف الشباب الإسلامي عن الانخراط في العمل العلني ومشاركة السلفيين نشاطهم السياسي والحزبي، بدعوى أنه سيقود إلى تقديم تنازلات عقائدية، وهو ما جرى اتخاذه مبررا لترجيح خيار السرية والعمل المسلح والمواجهات العسكرية، عبر الترويج لكونه المسار الضامن لعدم تقديم تنازلات على حساب العقيدة والثوابت الدينية.

احتراف تكنولوجي

تكرر الأمر ذاته مع فصيل الجماعة الإسلامية المصرية التي كان لها الدور والحضور الأكبر داخل محافظات الصعيد في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي؛ فالنتائج المترتبة على محاولات دمج الجماعة في المشهد السياسي صبت في صالح الأجنحة العنيفة، وأوحى تجميد نشاط حزب الجماعة المعروف بـ”البناء والتنمية” بفشل تجربتها الحزبية ليسمح في المقابل بتدعيم وجهات النظر المنحازة لخيار الصدام والعمل المسلح، سواء من أجنحة متشددة داخل الجماعة تضم هاربين بالخارج أو من أجيال جديدة من المتشددين من داخل نفس البيئة.

امتلك تيار السلفية الجهادية، خاصة تنظيم داعش في محافظات الصعيد، المقدرة على الاستفادة من آثار ممارسات وتحولات هذين الفصيلين “التيار السلفي التقليدي والجماعة الإسلامية”، مع تميزه عن التنظيمات القديمة باحترافه في التعامل مع مواقع الشبكات الاجتماعية وتطبيقات الهواتف الذكية في الدعاية والتعبئة والاستقطاب والتجنيد.

لا تعطي المجموعات المسلحة الحديثة الأولوية للتعبئة العامة بقصد تشكيل تنظيم عريض يطرح نفسه كبديل عن النظام القائم، كما كانت فلسفة التنظيمات التقليدية، إنما تركز جهدها مرحليا على الحالة الطائفية وتقدم نفسها كضامن وعامل ردع ضد تطرف واستعلاء ديني مفترض لدى الأقباط.

مكافحة الفكر المتطرف في الصعيد: مهمة ليست سهلة
مكافحة الفكر المتطرف في الصعيد: مهمة ليست سهلة

ولذا فهي تشكل الوقائع الاجتماعية وفق أفكارها وتحرص على تقديم أطروحاتها كقضايا ذات أولوية عبر ربط المشاكل الاجتماعية والطائفية بأسباب دينية، كالبعد عن منهج الإسلام الحق ومتطلبات عزته ورفعته.

تنشط من هذا المنطلق على الشبكات الاجتماعية وعبر اتصالاتها للتخديم على هذا الطرح عبر إبراز الثوابت العقائدية، وهي وفق تصورها وكما تعكسه أدبياتها “التوحيد والحاكمية والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وتغذية النزعة الطائفية، وكذلك تكثيف الحديث عن ملف القضية السورية والتركيز على التعبئة عبر المظلومية والتغني بمآثر من يطلقون عليهم شهداء التنظيم الذين قضوا في سيناء وغيرها، كما يقدم هذا التيار نفسه كطرف ضامن لحماية المجتمع وتحصينه من الأفكار التغريبية.

فرضت المجموعات الجهادية الجديدة عبر أسلوب حواري مختلف عن الأطر التقليدية الفوقية الجامدة للاستقطاب خطابا سلطويا بطرق ناعمة، وكفلت لنفسها ظهيرا شعبيا غير مؤدلج يرى في أعضائها أنهم ينصرون قضايا إسلامية وأنه من الواجب الديني مؤازرتهم، كما تحدت مسار احتواء الدولة للتنظيمات السلفية التقليدية واقتاتت من وراء تلك التحولات بتجنيد العشرات في أوساط الشباب الإسلامي الذي لا تصله غير تفسيرات السلفية الجهادية الناشطة على وسائل التواصل الاجتماعي.

تستدعي هذه النشاطات بالتوازي مع النجاحات الأمنية إعادة دفة الحراك الفكري إلى داخل مجتمع الصعيد لتعزيز الوطنية المصرية وتحجيم الحضور الهوياتي للنزعات الطائفية والمناهج التكفيرية المستفيدة من براغماتية وجمود التنظيمات السلفية التقليدية.

وكما يجري تنظيم العمل بشأن الملفات الاجتماعية والاقتصادية يلزم تنظيمه بشأن قضايا الأفكار عبر الاستفادة من خبرات وجهود النماذج الفكرية المعتدلة التي اقتصر توظيفها خلال السنوات الماضية على المستوى النخبوي، في حين يعاد إنتاج الأفكار المتطرفة الموصلة إلى العنف داخل عمق المجتمع بالزوايا والمساجد.

يظل التحدي الأضخم هو مجال مواقع التواصل الاجتماعي والفضاء الافتراضي عموما الذي يمثل ساحة التجنيد والاستقطاب الرئيسية للمجموعات الجهادية الجديدة بالصعيد، الأمر الذي يدفع باتجاه تفعيل نشاط منظم لطرح البديل المعتدل بكثافة وعمق، يقود إلى غلبة وطغيان الأفكار المؤسسة للهوية الوطنية والفهم المستنير للدين الإسلامي.

13