مجرد حكاية

تستهوي الروائيين حكايات السقوط والفشل بما تنطوي عليه من تعقيدات درامية تحتاجها الرواية، بينما تنحاز السير لرحلات الصعود، وحين وصف جورج لوكاش، بحساسية نيتشوية، الرواية بأنها “ملحمة عالم غادره الله” فلم يكن يسعى إلى صياغة فهم للتخييل الروائي داخل الإيثيقا، بقدر ما كان يتشوّف إلى تخليص وعي متنام بصدد الرواية من رواسب الملحمة والتراجيديا، لهذا كان تركيزه على ربط الرواية بـ”خيبة الأمل” غارقا في الدنيوية، حتى لا نقول في النزعة المجتمعية، لقد كان هذا المفهوم كشفا خارقا في حقل متحوّل، تستهويه حكايات السقوط والانكسار وانهيارات الوعي، وانقشاع الوهم، أمام الوقائع الصلدة.
وغني عن البيان أن السقوط ليس قدرا، ولا تحوّلا في إرادة يحدوها الصعود، هو بالأحرى تواؤم مع ذاكرة، ورضوخ لجبلة مناخ وقيم، وانصياع لاستيهامات، وهو في النهاية حصاد نهم وبحبوحة وتشوف لبلوغ أقاصي التحقق. وحين أعيد التأمل اليوم في مسار نجم الغناء الشبابي المغربي سعد المجرد، التي صادفت نهاية محزنة، أجدني تلقائيا استحضر فهم جورج لوكاش لفن الرواية الذي يضعها في برزخ بين التجربة والرغبة، ذلك الوضع الملتبس، والتواق باستمرار إلى التطبيع مع حالات الأزمة والتناقض، والإيهام الساخر بنقيض الأشياء. وعندما أقلب، في لحظات عديدة، محمولات التعريف الشخصي لسعد المجرد، لا أكف عن تخيله بما هو سعدٌ جُرد من أصالة، وركب مقطورة صعود صاعق كان مآله “خيبة الأمل”، لا أدري لم استحضرت مباشرة بعد اعتقاله الأخير، وإيداعه السجن في انتظار المحاكمة، قولة الحجاج البليغة حين أتاه خبر خروج سعيد بن جبير على حكم عبدالملك بن مروان، إذ قال “بل هو شقي بن كسير”.
أعتقد أن الحالة النفسية لسعد المجرد خلال مسيرته الفنية تغيّرت على نحو درامي، في اتجاه التجرد المطلق من الرهافة الرمزية قرينة الغنائية الشعرية، ليتغلغل بإصرار في مهالك النثر الروائي، صحيح أنه لا يمكن أن نطالبه بأن يكون أم كلثوم في أرثوذوكسيتها المتزمتة، ولا حتى والده البشير عبده الذي اختصر المجد في مجرد شذرات غنائية أعجبت يوما ما قلة متعاطفة، لكن اختزالاته اللفظية والإيقاعية المحركة للهيجان الزائغ، سكنت أسرار الجنون العاطفي في حكايته الشخصية، تلك التي تجاوز اللاذع والحار فيها إلى العنيف والصادم.
وهكذا تحوّلت فكرة الوجود الشعوري في المقطوعة، المنصتة لغوايات الوقت، تدريجيا، إلى تجرد ذاتي من أي التزام، داخل منظومة مجتمعية متنابذة المعايير والقيم والأخلاقيات، بات التجريد رغبة ولعنة ومصيرا، حيث الوجود هنا وهناك وهنالك على نحو تلفيقي، هو الأفق السحري لأداء غنائي بنكهة الجريمة.